Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 1-9)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سورة الأعراف من السور التى ابتدأت ببعض حروف التهجى { الۤمۤصۤ } ولم يسبقها فى النزول من هذا النوع من السور سوى ثلاثة وهى سور ن ، ق ، ص ويبلغ عدد السور القرآنية التى ابتدئت بالحروف المقطعة تسعاً وعشرين سورة . هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود من حروف التهجى التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين الرأى الأول أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى ، وسفيان الثورى ، وغيرهما من العلماء فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال " إن لكل كتاب سرّا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال " عجزت العلماء عن إدراكها " وعن على - رضى الله عنه - أنه قال " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال " سر الله فلا تطلبوه " . ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها . وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين . ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا . أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه ، وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى 1 - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة ، حفظ إلى أن يصبح " ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " إلخ . ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه . وأيضا فالتسمية بها أمر عارض لا يتنافى مع المراد منها فى ذاتها . 2 - وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى . 3 - وقيل إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله تعالى ، وبعضها من صفاته ، فمثلا " ألم " أصلها أنا الله أعلم . 4 - وقيل إنها اسم الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها الإِمام السيوطى في كتابه " الإِتقان " ، إلى أكثر من عشرين قولا . 5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن ، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين فى أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما تؤلفون منه كلامكم . ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، أو ادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونوكم فى ذلك . ومما يشهد بصحة هذا الرأى أن الآيات التى تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكثيراً ما تبدأ هذه الآيات باسم الإِشارة صراحة ، مثل قوله تعالى { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أو ضمنا مثل قوله - تعالى - فى أول سورة الأعراف { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ } وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل . هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " البرهان " للزركشى ، وإلى كتاب " الإِتقان " للسيوطى . ثم مدح - سبحانه - الكتاب الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } . المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل المراد به هنا السورة . وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التى هى مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذى لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه . والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس . ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدوداً عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب . ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر . أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك . قال تعالى { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } فالمقصود بقوله - تعالى - { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } تقوية قلب النبى صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل ، وإفهام الداعى إلى الله فى كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب فى تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا يضيق صدره بالإِنكار . وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك منه كقوله { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه . أى لا تشك فى أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم . فكان ضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم . وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى قوله تعالى - { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك . وأصله الضيق ، واستعماله فى الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشرحه وانفساحه . ولفظ { كِتَابٌ } يكون مبتدأ إذا جعلنا { الۤمۤصۤ } اسما للسورة ، وإلا كان خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير هذا كتاب . وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه . وإنما قيل { أُنزِلَ } ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإِيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره . ثم بين - سبحانه - العلة فى إنزال الكتاب فقال { لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } . الإِنذار هو الإِعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة . أى أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإِيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك . قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقال تعالى { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وقال تعالى { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } قال صاحب الكشاف " فما محل ذكرى ؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث . النصب بإضمار فعلها . كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف . والجر للعطف على محل لتنذر ، أى للإِنذار وللذكر " . ثم أمر القرآن الناس باتباع تعاليم الإِسلام التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فقال { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } . أى اتبعوا أيها الناس ملة الإِسلام وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، لأن الذى أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم الذى هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم والعليم بما فيه مصلحتكم وحذار من أن تتركوا شريعة الإِسلام التى تدعوكم إلى إفراد الله بالعبودية ، وتتخذوا معه شركاء يزينون لكم الأباطيل ، ويصرفونكم عن دينه القويم فالآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين لحضهم على إفراد الله بالعبودية ، ونهيهم عن اتباع أحد من الخلق فيما يتعلق بالأمور الدينية التى وضحتها الشريعة الإِسلامية . وقوله - تعالى - { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } معناه تذكراً قليلا تتذكرون ، أو زمناً قليلا تتذكرون فهو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف . وما مزيدة لتأكيد القلة . ثم ساق لهم بعد ذلك على سبيل الإِنذار والتخويف جانبا من العذاب الذى نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم وعنادهم فقال - تعالى - { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . كم هنا خبرية بمعنى كثير . وهى فى محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ، و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز . والقرية تطلق على مكان اجتماع الناس . وبأسنا أى عذابنا وعقابنا . وبياتا أى ليلا ومنه البيت لأنه يبات فيه . يقال بات يبيت بيتا وبياتا . وقائلون من القائلة وهى القيلولة وهى نوم نصف النهار . وقيل هى الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم . ودعواهم ، أى دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم . والمعنى وكثيراً من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا فى وقت نوم أهلها بالليل كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها فى وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب ، فما كان منهم عندما باغتهم العذاب فى وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا فى الخلاص إنا كنا ظالمين . فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التى لا تختلف فى أى زمان أو مكان . وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبوا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب . ولذا قال ابن كثير قال ابن جرير فى هذه الآية الدلالة الواضحة فى صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله " ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم " . و { أَوْ } فى قوله { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم . وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع . ومن العبر التى نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذى يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } وبعد أن بين القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى . عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى ، فقال { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } . والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التى بلغتها دعوة الرسل ، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه وعن تبليغه لدعوة الله ، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم ، وقد ورد ذلك فى كثير من آيات القرآن . قال - تعالى - { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } وقال تعالى { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } والمعنى فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ولنسألن المرسلين عما أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله ، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ، لأننا لا يغيب عنا شىء من أحوالهم . وعطفت جملة { فَلَنَسْأَلَنَّ } على ما قبلها بالفاء ، لأن هذا السؤال سيكون فى الآخرة ، وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم فى الدنيا . فالآية الكريمة بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوى . وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء . فإن قيل قد أخبر الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } فلماذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم فى الدنيا ؟ فالجواب أنهم لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم ، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم . فإن قيل فما فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة ؟ فالجواب من فوائده الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم ، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } ومن فوائده - أيضاً - مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم فى التبشير والإِنذار ، ولم يصدر عنهم تقصير قط . فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح ، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال استشهاد بهم وإفصاح . فإن قيل هناك بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما فى قوله تعالى { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } وكما فى قوله تعالى { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فكيف نجمع بين هذه الآيات الت تنفى السؤال والآيات التى تثبته كما فى قوله { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } ؟ فالجواب ، أن فى يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون فى موقف الحساب ولا يسألون فى موقف العقاب . أو أن المراد بالسؤال فى قوله { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ } التوبيخ والتقريع . والمنفى فى قوله { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } سؤال الاستعلام ، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل أذنبت أولا ، لأن الله لا تخفى عليه خافية ، وإنما يسأل لم فعلت كذا ؟ بعد أن يعرفه - سبحانه - بما فعله ، ويؤيد هذا القول قوله - تعالى - { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } أى فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا . قال بعض العلماء " والذى يهمنا هنا ، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار ، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد ، فليس فى السائل مظنة أن يجهل ، ولا فى المسئول مظنة أن ينكر ، وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم ، وشعور المرسلين بتبليغهم ، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها فى الوقت الذى كان يجديه الإققال عليها والإِيمان بها ، وهو نوع من زيادة الحسرة ، وقطع الآمال فى النجاة بوضع يد المجرم على جسم جريمته ، وهو فى الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن و الطمأنينة للرسل فى القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه ، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله - تعالى - { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } . ثم بين - سبحانه - مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } . الوزن عمل يعرف به قدر الشىء ، يقال وزنته وزنا وزنة . وهو مبتدأ ، ويومئذ متعلق بمحذوف خبره . والحق صفته ، أى والوزن الحق يوم القيامة . ومعنى الآيتين الكريمتين والوزن الحق ثابت فى ذلك اليوم الذى يسأل الله فيه الرسل والمرسل إليهم . ويخبرهم جميعا بما كان منهم فى الدنيا ، فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان والعمل الصالح ، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم ، ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصى فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب . قال تعالى { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } وقد اختلف العلماء فى كيفية الوزن فقال بعضهم إن التى توزن هى صحائف الأعمال التى كتبت فيها الحسنات والسيئات تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة ، وقطعا للمعذرة . قال ابن عمر " توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة " . وقيل إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوى ، والعدل التام فى تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال ، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول هذا الكلام فى وزن هذا وفى وزانه . أى يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن . والذى نراه أن من الواجب علينا أن نؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى فى ذلك اليوم الهائل الشديد ، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله ، لأنه شىء استأثر الله بعلمه ، وعلينا أن نعفى أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبى لم يرد فى حقيقته خبر قاطع فى كتاب الله أو سنة رسوله . قال الجمل فى حاشيته على الجلالين " فإن قلت أليس الله - تعالى - يعلم مقادير أعمال العباد ، فما الحكمة فى وزنها ؟ قلت فيه حكم منها ، إظهار العدل وأن الله - تعالى - لا يظلم عباده ، ومنها امتحان الخلق بالإِيمان بذلك فى الدنيا وإقامة الحجة عليهم فى العقبى . ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة ، ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه - سبحانه - أثبت أعمال العباد فى اللوح المحفوظ وفى صحائف الحفظة الموكلين ببنى آدم من غير جواز النسيان عليه " . وقوله - تعالى - { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن ، وثقل الموازين المراد به رجحان الأعمال الحسنة على غيرها ، كما أن خفة الموازين المراد بها رجحان الأعمال القبيحة على ما سواها . وقوله - تعالى - { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } متعلق بخسروا أى أن خسرانهم لأنفسهم فى الآخرة كان سببه جحودهم لآيات الله واستهزاءهم بها فى الدنيا . ثم حكى القرآن جانباً من مظاهر نعم الله على خلقه فقال - تعالى - { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي … } .