Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 70, Ayat: 1-18)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قرأه الجمهور بإظهار الهمزة فى { سَأَلَ } . وقرأه نافع وابن عامر " سال " بتخفيف الهمزة . قال الجمل قرأ نافع وابن عامر بألف محضة ، والباقون ، بهمزة محققة وهى الأصل . فأما القراءة بالألف ففيها ثلاثة أوجه أحدها أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفا . والثانى أنها من سَاَلَ يَسَالُ ، مثل خاف يخاف ، والألف منقلبة عن واو ، والواو منقلبة عن الهمزة . والثالث من السيلان ، والمعنى سال واد فى جهنم بعذاب . فالألف منقلبة عن ياء . وقد حكى القرآن الكريم عن كفار مكة ، أنهم كانوا يسألون النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء عن موعد العذاب الذى يتوعدهم به إذا ما استمروا على كفرهم ، ويستعجلون وقوعه . قال - تعالى - { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال - سبحانه - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } وعلى هذا يكون السؤال على حقيقته ، وأن المقصود به الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين . ومنهم من يرى أن سأل هنا بمعنى دعا . أى دعا داع على نفسه بعذاب واقع . قال الآلوسى ما ملخصه { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أى دعا داع به ، فسؤال بمعنى الدعاء ، ولذا عدى بالباء تعديته بها فى قوله { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } والمراد استدعاء العذاب وطلبه … وقيل إنها بمعنى " عن " كما فى قوله { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } والسائل هو النضر بن الحارث - كما روى النسائى وجماعة وصححه الحاكم - حيث قال إنكارا واستهزاء { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقيل السائل أو جهل ، حيث قال { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } وعلى أية حال فسؤالهم عن العذاب ، يتضمن معنى الإِنكار والتهكم ، كما يتضمن معنى الاستعجال ، كما حكته بعض الآيات الكريمة … ومن بلاغة القرآن ، تعدية هذا الفعل هنا بالباء ، ليصلح لمعنى الاستفهام الإِنكارى ، ولمعنى الدعاء والاستعجال . أى سأل سائل النبى صلى الله عليه وسلم سؤال تهكم ، عن العذاب الذى توعد به الكافرين إذا ما استمروا على كفرهم . وتعجَّلَه فى وقوعه بل أضاف إلى ذلك - لتجاوزه الحد فى عناده وطغيانه - أن قال { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقال - سبحانه - { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ولم يقل بعذاب سيقع ، للإِشارة إلى تحقق وقوع هذا العذاب فى الدنيا والآخرة . أما الدنيا فمن هؤلاء السائلين من قتل فى غزوة بدر وهو النضر بن الحارث ، وأبو جهل وغيرهما ، وأما فى الآخرة فالعذاب النازل بهم أشد وأبقى . ثم وصف - سبحانه - العذاب بصفات أخرى ، غير الوقوع فقال { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } . واللام فى قوله { لِّلْكَافِرِينَ } بمعنى على . أو للتعليل . أى سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين ، هذا العذاب ليس له دافع يدفعه عنهم ، لأنه واقع من الله - تعالى - { ذِي ٱلْمَعَارِجِ } . والمعارج جمع معرج ، وهو المصعد ، ومنه قوله - تعالى - { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } وقد ذكر المفسرون فى المراد بالمعارج وجوها منها أن المراد بها السموات ، فعن ابن عباس أنه قال أى ذى السموات ، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها . ومنها أن المراد بها النعم والمنن . فعن قتادة أنه قال ذى المعارج ، أى ذى الفواضل والنعم . وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب ، وهى تصل إلى الناس على مراتب مختلفة . ومنها أن المراد بها الدرجات التى يعطيها لأوليائه فى الجنة . وفى وصفه - سبحانه - ذاته بـ { ذِي ٱلْمَعَارِجِ } استحضار لصورة عظمة جلاله ، وإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا العذاب الواقع على الكافرين . بجملة من الصفات ، لتكون رداً فيه ما فيه من التهديد والوعيد للجاحدين ، الذى استهزأوا به وأنكروه . والمراد بالروح فى قوله { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } جبريل - عليه السلام - وأفرد بالذكر لتمييزه وفضله ، فهو من باب عطف الخاص على العام . والضمير فى " إليه " يعود إلى الله - تعالى - . أى تصعد الملائكة وجبريل - عليه السلام - معهم ، إليه - تعالى - . والسلف على أن هذا التعبير وأمثاله ، من المتشابه الذى استأثر - سبحانه - بعلمه . مع تنزيهه - عز وجل - عن المكان والجسمية . ولوازم الحدوث ، التى لا تليق بجلاله . وقيل " إليه " أى إلى عرشه - تعالى - أو إلى محل بره وكرامته . قال القرطبى ما ملخصه قوله { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } أى عروج الملائكة إلى المكان الذى هو محلهم فى وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد ، خمسين ألف سنة . وعن مجاهد هذا اليوم هو مدة عمر الدنيا ، من أول ما خلقت إلى آخر ما بقى منها ، خمسون ألف سنة . وقال ابن عباس هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة . ثم قال القرطبى " وهذا القول أحسن ما قيل فى الآية - إن شاء الله - بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث " أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " ، فقلت ما أطول هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده ، إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا " . وفى رواية عن ابن عباس - أيضا - أنه سئل عن هذه الآية فقال أيام سماها الله - عز وجل - ، وهو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها مالا أعلم . وقيل ذكر خمسين ألف سنة تمثيل - لما يلقاه الناس فى موقف الحساب من شدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر . وقال بعض العلماء وقد ذكر - سبحانه - فى سورة السجدة أنه { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال فى سورة الحج { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وذكر هنا { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } . والجمع بين هذه الآيات من وجهين أولهما ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف فى سورة الحج ، هو أحد الأيام الستة التى خلق الله - تعالى - فيها السموات والأرض . ويوم الألف فى سورة السجدة ، وهو مقدار سير الأمر وعروجه إليه - تعالى - . ويوم الخمسين ألف هنا هو يوم القيامة . وثانيهما أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر . ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أى أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة ، فهو يعادل فى حالة ألف سنة من سنى الدنيا ، ويعادل فى حالة أخرى خمسين ألف سنة . وقوله - تعالى - { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً . إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً . وَنَرَاهُ قَرِيباً … } متفرع على قوله - سبحانه - { سَأَلَ سَآئِلٌ } لأن السؤال كان سؤال استهزاء ، يضيق به الصدر ، وتغتم له النفس . والصبر الجميل هو الصبر الذى لا شكوى معه لغير الله - عز وجل - ولا يخالطه شىء من الجزع ، أو التبرم بقضاء الله وقدره . أى لقد سألوك - أيها الرسول الكريم - عن يوم القيامة ، وعن العذاب الذى تهددهم به … سؤال تهكم واستعجال … فاصبر صبرا جميلا على غرورهم وجحودهم وجهالاتهم . إنهم يرون هذا اليوم وما يصحبه من عذاب … يرونه " بعيدا " من الإِمكان أن من الوقوع ، ولذلك كذبوا بما جئتهم به من عندنا ، واستهزؤا بك … ونحن نراه قريبا من الإِمكان ، بل هو كائن لا محالة فى الوقت الذى تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا . ثم بين - سبحانه - جانبا من أهوال هذا اليوم فقال { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ . وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ . وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } . ولفظ " يوم " متعلق بقوله " قريبا " أو بمحذوف يدل عليه قوله { وَاقِعٍ } أى هو واقع هذا العذاب يوم تكون السماء فى هيئتها ومظهرها " كالمهل " أى تكون واهية مسترخية . . كالزيت الذى يتبقى فى قعر الإِناء . { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } أى كالصوف المصبوغ ألوانا ، لاختلاف ألوان الجبال ، فإن الجبال إذا فتتت وتمزقت فى الجو ، أشبهت الصوف المنفوش إذا طيرته الرياح ، قيل أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ، ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منبثا . ووجه الشبه أن السماء فى هذا اليوم تكون فى انحلال أجزائها ، كالشىء الباقى فى قعر الإِناء من الزيت ، وتكون الجبال فى تفرق أجزائها كالصوف المصبوغ الذى تطاير فى الجو . وفى هذا اليوم - أيضا - { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } أى لا يسأل صديق صديقه النصرة أو المعونة ، ولا يسأل قريب قريبه المساعدة والمؤازرة … لأن كل واحد منهما مشغول بهموم نفسه من شدة هول الموقف ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } والحميم هو الصديق الوفى القريب من نفس صديقه . وضمير الجمع فى قوله - سبحانه - { يُبَصَّرُونَهُمْ } يعود إلى الحميمين ، نظرا لعمومهما ، لأنه ليس المقصود صديقين مخصوصين ، وإنما المقصود كل صديق مع صديقه . والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، إجابة عن سؤال تقديره ولماذا لا يسأل الصديق صديقه فى هذا اليوم ؟ ألأنه لا يراه ؟ فكان الجواب لا ، إنه يراه ويشاهده ، ويعرف كل قريب قريبه ، وكل صديق صديقه فى هذا اليوم … ولكن كل واحد منهم مشغول بهمومه . قال صاحب الكشاف { يُبَصَّرُونَهُمْ } أى يبصر الأحماءُ الأحماءَ ، فلا يخفون عليهم ، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا ، وإنما يمنعهم التشاغل . فإن قلت ما موقع يبصرونهم ؟ قلت هو كلام مستأنف ، كأنه لمّا قال { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل لعله لا يبصره ، فقيل فى الجواب يبصرونهم ، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم . فإن قلت لم جمع الضميرين فى { يُبَصَّرُونَهُمْ } وهى للحميمين ؟ قلت المعنى على العموم لكل حميمين ، لا لحميمين اثنين . ثم بين - سبحانه - حالة المجرمين فى هذا اليوم فقال { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } أى يحب المجرم فى هذا اليوم ويتمنى . { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } أى يتمنى ويحب لو يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم بأقرب الناس إليه ، وألصقهم بنفسه … وهم بنوه وأولاده . ويود - أيضا - لو يفتدى نفسه بـ { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } أى بزوجته التى هى أحب الناس إليه ، وبأخيه الذى يستعين به فى النوائب . { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أى ويود كذلك أن ينقذ نفسه ، من العذاب بأقرب الأقرباء إليه . وهم أهله وعشيرته التى ينتسب إليها ، إذا الفصيلة هم الأقرباء الأدنون من القبيلة ، والذين هو واحد منهم . ومعنى { تُؤْوِيهِ } تضمه إليها ، وتعتبره فردا منها ، وتدافع عنه بكل وسيلة . وقوله { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } داخل فى إطار ما يتمناه ويوده . أى يود هذا المجرم أن يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم ، بأولاده ، ويصاحبته ، وبأخيه ، وبعشيرته التى هو فرد منها ، وبأهل الأرض جميعا من الجن والإِنس . ثم يتمنى - أيضا - أن يقبل منه هذا الافتداء ، لكى ينجو بنفسه من هذا العذاب . فقوله { ثُمَّ يُنجِيهِ } معطوف على قوله { يَفْتَدِي } أى يود لو يفتدى ثم لو ينجيه الافتداء . وكان العطف بثم ، للإِشعار باستبعاد هذا الافتداء ، وأنه عسير المنال . وقوله { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } معطوف على { بنيه } أى ويفتدى نفسه بجميع أهل الأرض . وهكذا نرى الآيات الكريمة تحكى لنا بهذا الأسلوب المؤثر ، حالة المجرم فى هذا اليوم ، وأنه يتمنى أن يفتدى نفسه مما حل به من عذاب ، بأقرب وأحب الناس إليه ، بل بأهل الأرض جميعا … ولكن هيهات أن يقبل منه شئ من ذلك . ولذا جاء الرد الزاجر له عما تمناه فى قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } وكلا حرف ردع وزجر ، وإبطال لكلام سابق ، وهو هنا ما كان يتمناه ويحبه … من أن يفتدى نفسه ببنيه ، وبصاحبته وأخيه … الخ . و " لظى " علم لجهنم ، أو لطبقة من طبقاتها ، واللظى اللهب الخالص ، والضمير للنار المدلول عنها بذكر العذاب . أى كلا - أيها المجرم - ليس الأمر كما وددت وتمنيت … وإنما الذى فى انتظارك ، هو النار التى هو أشد ما تكون اشتعالا . والتى من صفاتها كونها { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أى قلاعة لجلدة الرأس وأطراف البدن ، كاليد والرجل ، ثم تعود هذه الجلدة والأطراف كما كانت . فقوله { نَزَّاعَةً } صيغة المبالغة من النزع بمعنى القلع والفصل . والشوى جمع شواة - بفتح الشين - ، وهى من جوارح الإِنسان ما لم يكن مقتلا ، مثل اليد والرجل . والجمع باعتبار ما لكل أحد من جوارح وأطراف . يقال فلان رمى فأشوى ، إذا لم يصب مقتلا ممن رماه . وقيل الشواة جلدة الرأس . والجمع باعتبار كثرة الناس . وهذه النار الملتهبة من صفاتها - أيضا - أنها { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } أى تدعو لدخولها والاصطلاء بحرها ، من أدبر وأعرض وتولى عن الحق والرشد ، ونآى بجانبه عن طريق الهدى والاستقامة . قال ابن كثير هذه النار تدعو إليها أبناءها الذين خلقهم الله - تعالى - لها وقدر لهم أهم فى الدار الدنيا يعملون عملها ، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلْقِ ذَلْقٍ - أى فصيح بليغ - ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر ، كما يلتقط الطير الحب ، وذلك أنهم كانوا كما قال - سبحانه - ممن أدبر وتولى . أى ممن كذب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه . { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أى جمع المال بعضه على بعض فأوعاه ، أى فأمسكه فى وعائه وكنزه ومنع حق الله - تعالى - فيه ، وبخل به على مستحقيه . فقوله { فَأَوْعَىٰ } أى فجعله فى وعاء . وفى الحديث الشريف ، يقول صلى الله عليه وسلم " لا توعى - أى لا تجمع مالك فى الوعاء على سبيل الكنز - فيوعى الله عليك " - أى فيمنع الله - تعالى - فضله عنك ، كما منعت وقترت . وفى قوله - سبحانه - { وَجَمَعَ } إشارة إلى الحرص والطمع ، وفى قوله { فَأَوْعَىٰ } إشارة إلى بخله وطول أمله . قال قتادة { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } كان جموعا للخبيث من المال . وبعد هذا البيان المؤثر الحكيم عن طبائع المجرمين ، وعن أهوال يوم الدين ، وعن سوء عاقبة المكذبين … اتجهت السورة الكريمة إلى الحديث عن سجايا النفوس البشرية فى حالتى الخير والشر ، والغنى والفقر ، والشكر والجحود … واستثنت من تلك السجايا نفوس المؤمنين الصادقين ، فقال - تعالى - . { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ … } .