Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 70, Ayat: 36-44)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - تعالى - { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ . عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا ، ومن تصرفاتهم التى تدل على منتهى الغفلة والجهل . و " ما " مبتدأ ، و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } خبره . وقوله { مُهْطِعِينَ } من الإِهطاع ، وهو السير بسرعة ، مع مد العنق ، واتجاه البصر نحو شئ معين . و { عِزِينَ } جمع عزة - كفئة - وهى الجماعة . وأصلها عِزْوَة - بكسر العين - من العزو ، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ، فلامها واو ، وقيل لامها هاء ، والأصل عزهة . قال القرطبى والعزين جماعات متفرقة . ومنه الحديث الذى خرجه مسلم وغيره ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حِلَقا فقال مالى أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال يتمون الصفوف الأول ، ويتراصون فى الصف " . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات ، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبى صلى الله عليه وسلم ويستمعون إليه ، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين ، ويقولون لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم . والمعنى ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك - أيها الرسول الكريم - وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك ، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك ، جماعات متعددة ، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك ؟ ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم فى قراءة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين " . وقدم - سبحانه - الظرف { قِبَلَكَ } الذى بمعنى جهتك ، على قوله { مُهْطِعِينَ } للاهتمام ، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإِسراع هو الاتجاه نحو النبى صلى الله عليه وسلم للاستهزاء به وبأصحابه . والمراد بقوله { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ } جميع الجهات ، إلا أنه عبر بهاتين الجهتين ، لأنهما الجهتان اللتان يغلب الجلوس فيهما حول الشخص . وقوله { عِزِينَ } تصوير بديع لالتفافهم من حوله متفرقة فى مشاربها ، وفى مآربها ، وفى طباعها . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } للنفى والإِنكار . أى أيطمع كل واحد من هؤلاء الكافرين أن يدخل الجنة التى هى محل نعيمنا وكرامتنا بدون إيمان صادق ، وبدون عمل نافع … ؟ وقوله - سبحانه - { كَلاَّ } ردع لهم وزجر عن هذا الطمع ، أى كلا ليس الأمر كما يزعمون من أنهم سيدخلون الجنة قبل المؤمنين أو معهم بعدهم … وإنما هم سيكون مأواهم جهنم وبئس المصير . وقال - سبحانه - { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ } ولم يقل أيطمعون أن يدخلوا الجنة ، للإِشعار بأن كل واحد من هؤلاء الكافرين كان طامعا فى دخولها ، لاستيلاء الغرور والجهالة على قلبه . وجملة { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } تأكيد لهذا الردع والزجر ، وتهوين من شأنهم ، وإبطال لغرورهم ، وتنكيس لخيلائهم بأسلوب بديع مهذب … لأنه مما لا شك فيه أنهم يعلمون أنهم قد خلقوا من ماء مهين ، ومن كان كذلك فلا يليق به - متى كان عاقلا - أن يغتر أو يتطاول . قال صاحب الكشاف ما ملخصه ويجوز أن يراد بقوله { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أى من النطفة المذرة ، وهى منصبهم الذى لا منصب أوضع منه . ولذلك أبهم وأخفى إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم . وقيل معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة ، إلا بالإِيمان والعمل الصالح ، فكيف يطمع فى دخولها من ليس له إيمان وعمل . ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وعلى زيادة التهوين من شأن هؤلاء الكافرين ، والتحقير من أمرهم فقال { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ . عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } . وجمع - سبحانه - هنا المشارق والمغارب ، باعتبار أن لها فى كل يوم من أيام السنة مشرقا معينا تشرق منه ، ومغربا معينا تغرب فيه . وقال فى سورة الرحمن { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } أى مشرق ومغرب الشتاء . والصيف . وقال فى سورة المزمل { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } والمراد بهما هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، وعلى كل مغرب من مغاربها . وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجئ هذه الألفاظ تارة مفردة ، وتارة بصيغة المثنى ، وتارة بصيغة الجمع . وجملة { إِنَّا لَقَادِرُونَ } جواب القسم . أى أقسم بالله - تعالى - الذى هو رب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها … إنا لقادرون قدرة تامة { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أى على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما … أو على أن نبدل ذواتهم ، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذى هو عليه … فإن قدرتنا لا يعجزها شئ . وقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معطوف على جواب القسم ومؤكد له . أى إنا لقادرون على ذلك ، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ . إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } وقوله - سبحانه - { … وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } ، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شئ . والفاء فى قوله { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ … } للتفريع على ما تقدم . والخوض يطلق على السير فى الماء ، والمراد به هنا الكلام الكثير الذى لا نفع فيه . واللعب اشتغال الإِنسان بشئ لا فائدة من ورائه . والمراد به هنا استهزاؤهم بالحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم . أى ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاترك هؤلاء الكافرين ، ليخوضوا فى باطلهم ، ويلعبوا فى دنياهم ، ولا تلتفت إليهم . ودعهم فى هزلهم ولهوهم { حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة الذى لا شك فى إتيانه ووقوعه . وقوله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً } بدل من { يَوْمَهُمُ } . والأجداث جمع جدث - بفتح الجيم الدال - وهو القبر . أى اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم . وهو اليوم الذى يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعى . { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } والنصب - بضمتين - حجارة كانوا يعظمونها . وقيل هى الأصنام ، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة . { يُوفِضُونَ } أى يسرعون . يقال وفَض فلان يفِض وفْضاً - كوعد - إذا أسرع فى سيره . أى يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعى ، مستبقين إليه ، كما كانوا فى الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكى يستلموها ، ويلتمسوا منها الشفاعة . { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أى يخرجون من قبورهم ، حالة كونهم ذليلة خاضعة أبصارهم ، لا يرفعونها لما هم فيه من الخزى والهوان . { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى تغشاهم ذلة شديدة ، وهوان عظيم . يقال رَهِقهَ الأمر يرهَقهُ رَهَقاً ، إذا غشيه بقهر وغلبة لا يمكن له دفعها . { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أى ذلك الذى ذكرناه من الأهوال ، هو اليوم الذى كانوا يوعدونه فى الدنيا على ألسنة الرسل ، والذى كانوا ينكرون وقوعه ، وها هو ذا فى حكم الواقع ، لأن كل ما أخبر الله - تعالى - عنه ، فهو متحقق الوقوع . كما قال - سبحانه - فى أول السورة { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } وهكذا افتتحت السورة بإثبات أن يوم القيامة حق ، واختتمت كذلك بإثبات أن يوم القيامة حق . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .