Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-19)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد ذكرالمفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ، وأبو نعيم فى الدلائل عن جابر - رضى الله عنه - قال اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا كاهن . قالوا ليس بكاهن . قالوا مجنون . قالوا ليس بمجنون . قالوا ساحر . قالوا ليس بساحر … فتفرق المشركون على ذلك . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقرأ عليه { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ … } وقيل إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا فى قطيفة … فجاءه جبريل بقوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ . قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً … } . وقيل إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " جاورت بحراء ، فلما قضيت جوارى ، هبطت ، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا … فرفعت رأسى فإذا الذى جاءنى بحراء ، جالس على كرسى بين السماء والأرض … فرجعت فقلت دثرونى دثرونى " ، وفى رواية " فجئت أهلى فقلت زملونى زملونى ، فأنزل الله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ … } " . وجمهور العلماء يقولون وعلى أثرها نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ … } . و { ٱلْمُزَّمِّلُ } اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه ، إذا تلفف فيها ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء فى الزاى والميم . وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه . وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ " المزمل " تلطف معه ، وإيناس لنفسه ، وتحبب إليه ، حتى يزداد نشاطا ، وهو يبلغ رسالة ربه . والمعنى يأيها المزمل بثيابه ، المتلفف فيه ، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل . او هما وغما مما سمعه من المشركين ، من وصفهم له بصفات هو برئ منها . { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } أى قم الليل متعبدا لربك ، { إِلاَّ قَلِيلاً } منه ، على قدر ما تأخذ من راحة لبدنك ، فقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من الليل … وقوله { نِّصْفَهُ } بدل من { قَلِيلاً } بدل كل من كل ، على سبيل التفصيل بعد الإِجمال … أى قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثانى من الليل لراحتك ونومك … ووصف - سبحانه - هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال { إِلاَّ قَلِيلاً } للإِشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة … هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله - تعالى - بالنسبة للنصف الثانى المتخذ للراحة والنوم . وقوله - سبحانه - { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ … } تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من يسر وسماحة . . فكأنه - تعالى - يقول له على سبيل التلطف والإِرشاد إلى ما يشرح صدره - يأيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون فى حدود ثلث الليل ، ولك - أيها الرسول الكريم - أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة … فأنت ترى أن الله - تعالى - قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فى أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة ، وأن يجعل المقدار الباقى من الليل للنوم والراحة … وخص - سبحانه - الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات … فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدعى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله - عز وجل - . هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته . تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا فى الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله - تعالى - { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وقد أثنى - سبحانه - عليهم بسبب ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد ذكر الإِمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالت له ألست تقرأ هذه السورة ، يأيها المزمل … ؟ . إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها فى السماء اثنى عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف فى آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة … قال القرطبى ما ملخصه واختلف هل كان قيام الليل فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض ، لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت . واختلف - أيضا - هل كان فرضا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده ؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ؟ أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال … أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذى رواه سعيد بن هشام عن عائشة - رضى الله عنها - . وقال بعض العلماء بعد أن ساق أقوال العلماء فى هذه المسألة بشئ من التفصيل والذى يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال ، هو القول القائل بأن التهجد كان فريضة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذى يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية ، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما . ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا ، وأنه لم ينسخ ، وإنما الذى نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل ، لا ينقص كثيرا عن النصف . ويرد على هذا القول بما ثبت فى الصحيحين ، من " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى سأله عما يجب عليه من صلاة ؟ قال خمس صلوات فى اليوم والليلة . قال هل على غيرها ؟ قال لا إلا أن تطوع " . ويرى فريق آخر أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل . واستبدل به قراءة القرآن ، على ما يعطيه قوله - تعالى - { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ويدل عليه - أيضا - ظاهر ما روى عن عائشة ، من قولها فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة ، دون أن تقيد ذلك بقيد . ويرى فريق ثالث أن وجوب التهجد استمر على النبى وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج . ويرى فريق رابع أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها ، وبقى وجوبه على النبى صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإِسراء . ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع … فإن آية سورة الإِسراء وهى قوله - تعالى - { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ … } تدل على أن وجوب التهجد قد بقى عليه صلى الله عليه وسلم . وقوله - تعالى - { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم ، حتى يستمروا عليها ، وهم فى أول عهدهم بنزول القرآن الكريم . والترتيل جعل الشئ مرتلا ، أى منسقا منظما ، ومنه قولهم ثغر مرتل ، أى منظم الأسنان ، لم يشذ بعضها عن بعض . أى قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه … متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا ، تستبين معه الكلمات والحروف ، حتى يفهمها السامع ، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره ، وأثبت لمعانيه فى القلب … قال الإِمام ابن كثير وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها … وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا … وقال صلى الله عليه وسلم " زينوا القرآن بأصواتكم " . وقال عبد الله بن مسعود لا تنثروه نثر الرمَل ، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا فى قراءته كما تسرعوا فى قراءة الشعر . والهذ سرعة القطع - هذا ، وليس معنى قوله - سبحانه - { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } ، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء ، ومخارج الحروف ، والغن والمد ، والإِدغام والإِظهار … وغير ذلك مما تقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم . وإنما معنى قوله - تعالى - { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر ، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة ، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإِظهار والإِخفاء ، وغير ذلك … وقد بسط القول فى هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت . وقوله - تعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } تعليل للأمر بقيام الليل ، وهو كلام معترض بين قوله - سبحانه - { قُمِ ٱلْلَّيْلَ … } وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ … } . والمراد بالقول الثقيل القرآن الكريم الذى أنزله - سبحانه - على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم . ويشهد لثقل القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة ، منها ما رواه الإِمام البخارى من أن السيدة عائشة قالت ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى ، فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " ما من مرة يوحَى إلى ، إلا ظننت أن نفسى تفيض " - أى تخرج … ومنها قول زيد بن ثابت أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من القرآن - وفخذه على فخذى فكادت تُرَض فخذى - أى تتكسر … ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - أى باطن عنقها - فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه . أى قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك ، متقربا إليه بألوان الطاعات ، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ، وهذا القول هو القرآن الكريم ، الثقيل فى وزنه وفى ميزان الحق ، وفى أثره فى القلوب ، وفيما اشتمل عليه من تكاليف ، وصدق الله إذا يقول { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ … } قال الجمل قوله { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أى كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة ، لأنه كلام رب العالمين ، وكل شئ له خطر ومقدار فهو ثقيل . أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام . قال قتادة ثقيل والله فى فرائضه وحدوده … وقال محمد بن كعب ثقيل على المنافقين ، لأنه يهتك اسرارهم … وقال السدى ثقيلا بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم فلان ثقل علىَّ ، أى كرم على … وقال ابن المبارك هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل فى الدنيا ، ثقل فى الميزان يوم القيامة . وقيل ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفى بإدراك فوائده ومعانيه ، فالمتكلمون غاصوا فى بحار معقولاته . والفقهاء بحثوا فى أحكامه … والأولى أن جميع هذه المعانى فيه . وقيل المراد بالقول الوحى ، كما فى الخبر ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه ، وهو على ناقته وضعت جرانها - أى وضعت صدرها على الأرض - فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه … ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى ، لما ثبت من ثقله على النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزوله عليه … وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة ، ومن هدايات سامية ، ومن أحكام حكيمة ، ومن آداب قويمة ، ومن تكاليف جليلة الشأن . وعبر - سبحانه - عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإِلقاء للإِشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى الله عليه وسلم ، بل ينزل إليه فى الوقت الذى يريده سبحانه - وللإِشارة من أول الأمر إلى ما يوحى إليه شئ عظيم وشديد الوقع على النفس . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الحكمة من أمره له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة فقال { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } . وقوله { نَاشِئَةَ } وصف من النشء وهو الحدوث ، وهو صفة لموصوف محذوف . وقوله { وَطْأً } بمعنى مواطأة وموافقة ، وأصل الوطء وضع الرجل على الأرض بنظام وترتيب ، ثم استعير للموافقة ، ومنه قوله - تعالى - { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } ومنه قولهم وطأت فلانا على كذا ، إذا وافقته عليه . وهو منصوب على التمييز . وقوله { قِيلاً } بمعنى قولا . وقوله { وَأَقْوَمُ } بمعنى أفضل وأنفع . والمعنى يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة . فإن العبادة الناشئة بالليل . هى أشد مواطأة وموافقة لإِصلاح القلب ، وتهذيب النفس ، وأقوم قولا ، وأنفع وقعا ، وأفضل قراءة من عبادة النهار ، لأن العبادة الناشئة بالليل يصحبها ما يصحبها من الخشوع والإِخلاص ، لهدوء الأصوات بالليل ، وتفرغ العابد تفرغا تاما لعبادة ربه . قال الشوكانى ما ملخصه قوله { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ … } أى ساعاته وأوقاته ، لأنها تنشأ أولا فأولا ، ويقال نشأ الشئ ينشأ ، إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شئ ، فهو ناشئ … قال الزجاج ناشئة الليل ، كل ما نشأ منه ، أى حدث منه … والمراد ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف . وقيل إن ناشئة الليل ، هى النفس التى تنشأ من مضجعها للعبادة ، أى تنهض ، من نشأ من مكانه ، إذا نهض منه . { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ الجمهور { وَطْأً } بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، وقرأ بعضهم { وَطْأً } بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة . والمعنى على القراءة الأولى أن الصلاة الناشئة فى الليل ، أثقل على المصلى من صلاة النهار ، لأن الليل للنوم . . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر " . والمعنى على القراءة الثانية أنها أشد مواطأة وموافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان ، لانقطاع الأصوات والحركات ، ومنه قوله - تعالى - { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أى ليوافقوا . { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أى وأشد مقالا . وأثبت قراءة ، لحضور القلب فيها ، وهدوء الأصوات ، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب … وقوله - سبحانه - { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه - سبحانه - . والسبح مصدر سبح ، وأصله الذهاب فى الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع ، الذى يشبه حركة السابح فى الماء . أى إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة ، لأن لك فى النهار - أيها الرسول الكريم - تقلبا وتصرفا فى مهماتك ، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا ، أما فى الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم . فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل - إلا قليلا منه - للعبادة ، حيث لم يجمع - سبحانه - عليه الأمر بالتهجد فى الليل والنهار ، وإنما يسر عليه الأمر ، فجعله بالليل فحسب ، أما النهار فهو لمطالب الحياة ولتبليغ رسالته - سبحانه - إلى الناس . ثم أمره - سبحانه - بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً . رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } . وقوله - سبحانه - { وَتَبَتَّلْ } من التبتل ، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله - تعالى - ، والانقطاع لطاعته . ومنه قولهم بتَل فلان الحبل ، إذا قطعه ، وامرأة بتول . أى منقطعة عن الزواج ، ومتفرغة لعبادة الله - تعالى - والمراد به هنا التفرغ لما يرضى الله - تعالى - ، والاشتغال بذلك عن كل شئ سواه . أى وداوم - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - عن طريق تسبيحه ، وتحميده وتكبيره ، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما ، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل . فربك - عز وجل - هو { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } . أى هو - سبحانه - رب جهتى الشروق والغروب للشمس . { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مستحق للعبادة والطاعة ، وما دام الأمر كذلك { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } . أى فاتخذه وكيلك الذى تفوض إليه أمرك ، وتلجأ إليه فى كل أحوالك … إذ الوكيل هو الذى توكل إليه الأمور ، ويترك له التصرف فيها . وليس المراد بقوله - تعالى - { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } الانقطاع التام عن الأعمال ، لأن هذا يتنافى مع قوله - تعالى - قبل ذلك { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينبغى له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار ، عن طاعته - عز وجل - وعن المداومة على مراقبته وذكره . ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبى صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - ، ومن تعليم الناس العلم النافع ، والعمل الصالح … كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله - تعالى - ، وعلى التفرغ لعبادته . وقال - سبحانه - { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره ، للإِشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختيارى منه صلى الله عليه وسلم ، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله - تعالى - ، وبذلك يحصل التبتل الذى هو أثر للتبتيل ، بمعنى ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة . ووصف - سبحانه - ذاته بأنه { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } ، لمناسبة الأمر بذكره فى الليل والنهار ، وهما وقت ابتداء طلوع الشمس وغروبها ، فكأنه - سبحانه - يقول داوم على طاعتى لأنى أنا رب جميع جهات الأرض ، التى فيها تشرق الشمس وتغرب . والمراد بالمشرق والمغرب هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، التى هى ثلاثمائة وستون مشرقا - كما يقول العلماء - وعلى كل مغرب من مغاربها التى هى كذلك . والمراد بالمشرقين والمغربين كما جاء فى سورة الرحمن مشرق ومغرب الشتاء والصيف . والمراد بالمشارق والمغارب كما جاء فى سورة المعارج مشرق ومغرب كل يوم للشمس والكواكب . ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالصبر الجميل ، على أذى قومه فقال { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً … } . أى اجعل يا محمد اعتمادك وتوكلك على وحدى ، واصبر على ما يقوله أعداؤك فى حقك من أكاذيب وخرافات … واهجرهم هجرا جميلا ، أى واعتزلهم وابتعد عنهم ، وقاطعهم مقاطعة حسنة ، بحيث لا تقابل السيئة يمثلها ، ولا تزد على هجرهم بأن تسبهم ، أو ترميهم بالقبيح من القول … قال الإِمام الرازى ما ملخصه والمعنى أنك لما اتخذتنى وكيلا فاصبر على ما يقولون ، وفوض أمرهم إلى ، فإنى لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك ، أحسن من قيامك بإصلاح نفسك . واعلم أن مهمات العباد محصورة فى أمرين فى كيفية معاملتهم مع الله ، وقد ذكر - سبحانه - ذلك فى الآيات السابقة ، وفى كيفية معاملتهم مع الخلق ، وقد جمع - سبحانه - كل ما يحتاج إليه فى هذا الباب فى هاتين الكلمتين ، وذلك لأن الإِنسان إما أن يكون مخالطا للناس ، أو مجانبا لهم . فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم … وإما أن يكون مجانبا لهم ، فعليه أن يهجرهم هجرا جميلا . . بأن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم فى أفعالهم ، مع المداراة والإِغضاء … وقوله - سبحانه - { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أى ودعنى وشأنى مع هؤلاء المكذبين بالحق ، ولا تهتم أنت بأمرهم ، فأنا خالقهم ، وأنا القادر على كل شئ يتعلق بهم . وقوله { أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } وصف لهم جئ به على سبيل التوبيخ لهم ، والتهكم بهم ، حيث جحدوا نعم الله ، وتوهموا أن هذه النعم من مال أو ولد ستنفعهم يوم القيامة . والنَّعمة - بفتح النون مع التشديد - تطلق على التنعم والترفه وغضارة العيش فى الدنيا . وأما النِّعمة - بكسر النون - فاسم للحالات الملائمة لرغبة الإِنسان من غنى أو عافية أو نحوهما . وأما النُّعمة - بالضم - فهى اسم المسرة . يقال فلان فى نُعْمة - بضم النون - أى فى فرح وسرور . وقوله { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أى واتركهم ودعهم فى باطلهم وقتا قليلا ، فسترى بعد ذلك سوء عاقبة تكذيبهم للحق . وقوله - سبحانه - { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً … } تعليل لما قبله . والأنكال جمع نكل - بكسر النون وسكون الكاف - وهو القيد الثقيل ، يوضع فى الرجل لمنع الحركة . وسميت القيود بذلك لأنها تجعل صاحبها موضع عبرة وعظة ، أو لأنها تجعل صاحبها ممنوعا من الحركة ، والتقلب فى مناكب الأرض . أى إن لدنيا ما هو أشد من ردك عليهم … وهو تلك القيود التى نقيد حركتهم بها ، وإن لدينا " جحيما " أى نارا شديدة الاشتعال نلقى بهم فيها ، وإن لدينا كذلك " طعاما ذا غصة " أى طعاما يلتصق فى الحلوق ، فلا هو خارج منها ، ولا هو نازل عنها ، بل هو ناشب فيها لبشاعته ومرارته . وهذا الطعام ذو الغُصَّة ، يشمل ما يتناولونه من الزقوم ومن الغسلين ومن الضريع ، كما جاء فى آيات أخرى . والغصة ما يَنْشَب فى الحلق من عَظْم أو غيره ، وجمعه غُصَص . وإن لدينا فوق كل ذلك { وَعَذَاباً أَلِيماً } أى عذابا شديد الإِيلام لمن ينزل به . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المكذبين بألوان من العقوبات الشديدة ، توعدتهم بالقيود التى تشل حركتهم ، وبالنار المشتعلة التى تحرق أجسادهم ، وبالطعام البشع الذى ينشب فى حلوقهم ، وبالعذاب الأليم الذى يشقيهم ويذلهم . والظرف فى قوله - تعالى - { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ … } منصوب بالاستقرار العامل فى " الدنيا " ، الذى هو الخبر فى الحقيقة . أى استقر لهم ذلك العذاب الأليم الدنيا ، يوم القيامة ، يوم تضطرب وتتزلزل الأرض والجبال . { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ } فى هذا اليوم { كَثِيباً مَّهِيلاً } أو رملا مجتمعا ، بعد أن كانت قبل ذلك الوقت أحجارا صلبة كبيرة . فقوله { كَثِيباً } من كثَب الشئَ يَكِْثبه ، إذا جمعه من قرب ثم صبه ، وجمعه كُثُب وكُثبْان ، وهى تلال الرمال المجتمعة كالربوة . وقوله { مَّهِيلاً } اسم مفعول من هال الشئ هيلا ، إذا نثره ، وفرقه بعد اجتماعه . والشئ المهيل هو الذى يحرَّك أسفله فينهار أعلاه ويتساقط بسرعة . ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، فيقول { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً . فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } . أى إنا أرسلنا إليكم - أيها المكذبون - رسولا عظيم الشأن ، رفيع القدر ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، { شَاهِداً عَلَيْكُمْ } أى سيكون يوم القيامة شاهدا عليكم ، بأنه قد بلغكم رسالة الله - تعالى - دون أن يقصر فى ذلك أدنى تقصير . والكاف فى قوله - تعالى - { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } للتشبيه ، أى أرسلنا إليكم - يا أهل مكة - رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه ، هو موسى - عليه السلام - . وأكد الخبر فى قوله - تعالى - { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ … } لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبى صلى الله عليه وسلم . ونكر رسولا ، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة ، وللتعظيم من شأنه صلى الله عليه وسلم أى أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن ، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة . والفاء فى قوله { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } للتفريع . أى أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا قبل ذلك ، فكانت النتيجة أن عصى فرعون أمر الرسول الذى أرسلناه إليه ، واستهزأ به ، وتطاول عليه فكانت عاقبة هذا التطاول ، أن أخذناه { أَخْذاً وَبِيلاً } . أى أهلكنا فرعون إهلاكا شديدا ، وعاقبناه عقابا ثقيلا ، فوبيل بزنة فعيل - صفة مشبهة ، مأخوذة من وَبُل المكان ، إذا وَخُم هواؤه وكان ثقيلا رديئا . ويقال مرعى وبيل ، إذا كان وخما رديئا . وخص - سبحانه - موسى وفرعون بالذكر ، لأن أخبارهما كانت مشهورة عند أهل مكة . و { أل } فى قوله { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } للعهد . أى فعصى فرعون الرسول المعهود عندكم ، وهو موسى - عليه السلام - . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم نكر الرسول ثم عرف ؟ قلت لأنه أراد أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل ، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف . إشارة إلى المذكور بعينه … وأظهر - سبحانه - اسم فرعون مع تقدم ذكره فقال { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } ، دون أن يؤتى بضميره ، للإِشعار بفظاعة هذا العصيان ، وبلوغه النهاية فى الطغيان . والمقصود من هاتين الآيتين ، تهديد المشركين ، بأنهم إذا ما استمروا فى تكذيبهم لرسولهم ، محمد صلى الله عليه وسلم فقد يصيبهم من العذاب ما أصاب فرعون عندما عصى موسى - عليه السلام - . ثم ذكرهم - سبحانه - بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً . السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } . والاستفهام فى قوله { فَكَيْفَ } مستعمل فى التوبيخ والتعجيز ، و { تَتَّقُونَ } بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب ، ومعنى { إِن كَفَرْتُمْ } إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه . وقوله { يَوْماً } منصوب على أنه مفعول به لقوله { تَتَّقُونَ } . وقوله { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } صفة ثانية لهذا اليوم . والمراد بالولدان الأطفال الصغار ، وبه بمعنى فيه … والمقصود بهاتين الآيتين - أيضا - تأكيد التهديد للمشركين ، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم … أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين ، فكيف تصونون أنفسكم - إذا ما بقيتم على كفركم - من عذاب يوم هائل شديد ، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان ، إلى شعر شديد البياض … وهذا اليوم من صفاته - أيضا - أنه لشدة هوله ، أن السماء - مع عظمها وصلابتها - تصير شيئا منفطرا - أى متشققا { به } أى فيه ، والضمير يعود إلى اليوم … وصدر - سبحانه - الحديث عن يوم القيامة ، بلفظ الاستفهام " كيف " للإِشعار بشدة هوله . وأنه يعجز الواصفون عن وصفه . ووصف - سبحانه - هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان ، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه ، للارتقاء فى الوصف من العظيم إلى الأعظم ، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد إلى البياض - مع شدته وعظمه - أشد منه وأعظم ، انشقاق السماء فى هذا اليوم . قال صاحب الكشاف وقوله { يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } مثل فى الشدة ، يقال فى اليوم الشديد ، يوم يشيب نواصى الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإِنسان ، أسرع فيه الشيب ، كما قال أبو الطيب @ والهَمُّ يَخْتَرِم الجسيمَ نحافةً ويُشِيبُ ناصيةَ الصبى ويُهْرِم @@ ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب . وقوله { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة - أيضا - وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق … ووصف - سبحانه - السماء بقوله { مُنفَطِرٌ } بصيغة التذكير ، حيث لم يقل منفطرة ، لأن هذه الصيغة ، صيغة نسب . أى ذات انفطار ، كما فى قولهم امرأة مرضع وحائض ، أى ذات إرضاع وذات حيض . أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف ، كما فى قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة ، فيجوز وصفه بالتذكير والتأنيث . وقوله { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } الضمير فيه يعود إلى الخالق - عز وجل - والوعد مصدر مضاف لفاعله . أى كان وعد ربك نافذا ومفعولا ، لأنه - سبحانه - لا يخلف موعوده . ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم ، والضمير فى وعده يعود إليه ، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله . أى كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا . ثم ختم - سبحانه - هذه التهديدات بقوله { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } . واسم الإِشارة " هذه " يعود إلى الآيات المتقدمة ، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر . والتذكرة اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار . ومفعول " شاء " محذوف . والمعنى إن هذه الآيات التى سقناها لكم تذكرة وموعظة ، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة ، فعليه أن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وأن يتخذ بسبب إيامنه وعمله الصالح ، طريقا وسبيلا إلى ربه ورحمته ومغفرته . والتعبير بقوله { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذ … } ليس من قبيل التخبير ، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله - تعالى - بدليل قوله - تعالى - قبل ذلك { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } أى هذه الآيات تذكرة وموعظة ، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته ، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، - من أول السورة إلى هنا - يراها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة ، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه ، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين ، حتى يحكم الله - تعالى - بينه وبينهم . كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد ، وذكرتهم بأهوال يوم القيامة ، وبما حل بالمكذبين من قبلهم ، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم . وبعد هذه الإِنذارات المتعددة للمكذبين ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله - تعالى - وطاعته … فقال - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن … } .