Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-30)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد افتتح الله - تعالى - سورة المدثر ، بالملاطفة والمؤانسة فى النداء والخطاب ، كما افتتح سورة المزمل . والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان ، إذا لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذى يلى البدن ، ومنه حديث " الأنصار شعار والناس دثار " . قال القرطبى قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } ملاطفة فى الخطاب من الكريم إلى الحبيب ، إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه ، كما تقدم فى سورة المزمل . ومثله " قول النبى صلى الله عليه وسلم لِعَلىٍّ إذ نام فى المسجد " قم أبا تراب " . وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة - رضى الله عنها - ، فسقط رداؤه وأصابه التراب . " ومثله " قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق قم يا نومان " . والمراد بالقيام فى قوله - تعالى - قم فأنذر ، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره - سبحانه - به ، والإِنذار هو الإِخبار الذى يصاحبه التخويف . أى قم - أيها الرسول الكريم - وانهض من مضجعك ، وبادر بعزيمة وتصميم ، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم ، إذا ما استمروا فى كفرهم ، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم ، ومرهم بأن يخلصوا له - تعالى - العبادة والطاعة . والتعبير بالفاء فى قوله { فَأَنذِرْ } للإِشعار بوجوب الإِسراع بهذا الإِنذار بدون تردد . وقال فأنذر ، دون فبشر ، لأن الإِنذار هو المناسب فى ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال . ومفعول أنذر محذوف . أى قم فأنذر الناس ، ومرهم بإخلاص العبادة لله . وقوله { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أمر آخر له صلى الله عليه وسلم ولفظ { وَرَبَّكَ } منصوب على التعظيم لفعل { كبر } قدم على عامله لإِفادة التخصيص . أى يأيها المدثر بثيابه لخوفه مما رآه من ملك الوحى ، لا تخف ، وقم فأنذر الناس من عذاب الله ، إذا ما استمروا فى شركهم ، واجعل تكبيرهم وتعظيمك وتبجيلك لربك وحده ، دون أحد سواه ، وصفه بما هو أهله من تنزيه وتقديس . والمراد بتطهير الثياب فى قوله - تعالى - { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } تطهيرها من النجاسات . والمقصود بالثياب حقيقتها ، وهى ما يلبسه الإِنسان لستر جسده … ومنهم من يرى أن المقصود بها ذاته ونفسه صلى الله عليه وسلم أى ونفسك فطهرها من كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم . وقال صاحب الكشاف قوله - تعالى - { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط فى الصلاة ، ولا تصح إلا بها . وهى الأول والأحب فى غير الصلاة . وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا . وقيل هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ، ويستهجن من العادات . يقال فلان طاهر الثياب ، وطاهر الجيب والذيل والأردان ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، ومدانس الأخلاق . ويقال فلان دنس الثياب للغادر - والفاجر - ، وذلك لأن الثوب يلابس الإِنسان ، ويشتمل عليه … وسواء أكانت المراد بالثياب هنا معناها الحقيقى ، أو معناها المجازى المكنى به عن النفس والذات ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على الطهارة الحسية والمعنوية فى كل شئونه وأحواله ، فهو بالنسبة لثيابه كان يطهرها من كل دنس وقذر ، وبالنسبة لذاته ونفسه ، كان أبعد الناس عن كل سوء ومنكر من القول أو الفعل . إلا أننا نميل إلى حمل اللفظ على حقيقته ، لأنه لا يوجد ما يوجب حمله على غير ذلك . ثم أمره - سبحانه - بأمر رابع فقال { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } والأصل فى كلمة الرجز أنها تطلق على العذاب ، قال - تعالى - { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } والمراد به هنا الأصنام والأوثان ، أو المعاصى والمآثم التى يؤدى اقترافها إلى العذاب . أى وداوم - أيها الرسول الكريم - على ما أنت عليه من ترك عبادة الأصنام والأوثان ، ومن هجر المعاصى والآثام . فالمقصود بهجر الرجز المداومة على هجره وتركه ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلتبس بشئ من ذلك . ثم نهاه - سبحانه - عن فعل ، لا يتناسب مع خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } والمن أن يعطى الإِنسان غيره شيئا ، ثم يتباهى به عليه ، والاستكثار عد الشئ الذى يعطى كثيرا . أى عليك - أيها الرسول الكريم - أن تبذل الكثير من مالك وفضلك لغيرك ، ولا تظن أن ما أعطيته لغيرك كثيرا - مهما عظم وجل - فإن ثواب الله وعطاءه أكثر وأجزل … ويصح أن يكون المعنى ولا تعط غيرك شيئا ، وأنت تتمنى أن يرد لك هذا الغير أكثر مما أعطيته ، فيكون المقصود من الآية النهى عن تمنى العوض . قال ابن كثير قوله { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس لا تعط العطية تلتمس أكثر منها . وقال الحسن البصرى لا تمنن بعملك على ربك تستكثره ، وعن مجاهد لا تضعف أن تستكثر من الخير . وقال ابن زيد لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها ، تأخذ على ذلك عوضا من الدنيا . فهذه أربعة أقوال ، والأظهر القول الأول - المروى عن ابن عباس وغيره - . وقوله - سبحانه - { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } أى وعليك - أيها الرسول الكريم - أن توطن نفسك على الصبر ، على التكاليف التى كلفك بها ربك ، وأن تتحمل الآلام والمشاق فى سبيل دعوة الحق ، بعزيمة صادقة ، وصبر جميل ، وثبات لا يخالطه تردد أو ضعف . فهذه ست وصايا قد اشتملت على ما يرشد إلى التحلى بالعقيدة السليمة ، والأخلاق الكريمة . ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة فقال { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ . فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } . والفاء فى قوله { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } للسببية . والناقور - بزنة فاعول من النقر ، وهو اسم لما ينقر فيه ، أى لما ينادى فيه بصوت مرتفع . والمراد به هنا الصور أو القرن الذين ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله - تعالى - النفخة الثانية التى يكون بعدها الحساب والجزاء . والفاء فى قوله { فَذَلِكَ } واقعة فى جواب { إذا } واسم الإِشارة يعود إلى مدلول النقر وما يترتب عليه من حساب وجزاء . وقوله { يومئذ } بدل من اسم الإِشارة . والتنوين فيه عوض عن جملة وقوله { عَسِيرٌ } و { غَيْرُ يَسِير } صفتان لليوم . أى أنذر - أيها الرسول الكريم - الناس ، وبلغهم رسالة ربك ، واصبر على أذى المشركين ، فإنه إذا نفخ إسرافيل بأمرنا النفخة الثانية ، صار ذلك النفخ وما يترتب عليه من أهوال ، وقتا وزمانا عسير أمره على الكافرين ، وغير يسير وقعه عليهم . ووصف اليوم بالعسير ، باعتبار ما يقع فيه من أحداث يشيب من هولها الولدان . وقوله { غَيْرُ يَسِير } تأكيد لمعنى { عَسِيرٌ } كما يقال هذا أمر عاجل غير آجل . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما فائدة قوله { غَيْرُ يَسِير } وقوله { عَسِيرٌ } مغن عنه ؟ قلت لما قال { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } فقصر العسر عليهم قال { غَيْرُ يَسِير } ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا ، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم ، وبين بشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا . كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا . ثم ذكر - سبحانه - جانبا من قصة زعيم من زعماء المشركين . افترى الكذب على الله - تعالى - وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت عاقبته العذاب المهين ، فقال - تعالى - { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً . وَبَنِينَ شُهُوداً . وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلاَّ … } . وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت فى شأن الوليد بن المغيرة المخزومى ، وذكروا فى ذلك روايات منها أن المشركين عندما اجتمعوا فى دار الندوة ، ليتشاوروا فيما يقولونه فى شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن الكريم - قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج . فقال بعضهم هو شاعر ، وقال آخرون بل هو كاهن … أو مجنون … وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم ، ثم قال بعد أن فكر وقدر ما هذا الذى يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا سحر يؤثر ، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته ، وبين الأخ وأخيه … قال الآلوسى نزلت هذه الآيات فى الوليد بن المغيرة المخزومى ، كما روى عن ابن عباس وغيره . بل قيل كونها فيه متفق عليه … وقوله { وَحِيداً } حال من الياء فى { ذَرْنِي } أى ذرنى وحدى معه فأنا أغنيك فى الانتقام منه ، أو من التاء فى خلقت أى خلقته وحدى ، لم يشركنى فى خلقه أحد ، فأنا أهلكه دون أن أحتاج إلى ناصر فى إهلاكه ، أو من الضمير المحذوف العائد على " مَن " أى ذرنى ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد … وكان الوليد يلقب فى قومه بالوحيد … لتفرده بمزايا ليست فى غيره - فتهكم الله - تعالى - به وبلقبه ، أو صرف هذا اللقب من المدح إلى الذم . أى اصبر - أيها الرسول الكريم - على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان ، واتركنى وهذا الذى خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ثم أعطيته الكثير من النعم ، فلم يشكرنى على ذلك . والتعبير بقوله { ذَرْنِي } للتهديد والوعيد ، وهذا الفعل يأتى منه الأمر والمضارع فحسب ، ولم يسمع منه فعل ماض . وقوله { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أى وجعلت له مالا كثيرا واسعا ، يمد بعضه بعضا ، فقوله { مَّمْدُوداً } اسم مفعول من " مدَّ " الذى بمعنى أطال بأن شبهت كثرة المال ، بسعة مساحة الجسم . أو من " مدَّ " الذى هو بمعنى زاد فى الشئ من مثله ، ومنه قولهم مد الوادى النهر ، أى مده بالماء زيادة على ما فيه . قالوا وكان الوليد من أغنى أهل مكة ، فقد كانت له أموال كثيرة من الإِبل والغنم والعبيد والبساتين وغير ذلك من أنواع الأموال . { وَبَنِينَ شُهُوداً } أى وجعلت له - بجانب هذا المال الممدود - أولادا يشهدون مجالسه ، لأنهم لا حاجة بهم إلى مفارقته فى سفر أو تجارة ، إذ هم فى غنى عن ذلك بسبب وفرة المال فى أيدى أبيهم . فقوله { شُهُوداً } جمع شاهد بمعى حاضر ، وهو كناية عن كثرة تنعمهم وائتناسه بهم . قيل كانوا عشرة ، وقيل ثلاثة عشر ، منهم الوليد ، وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاصى ، وعبد شمس . وقد أسلم منهم ثلاثة ، وهم خالد ، وهشام ، وعمارة . { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } والتمهيد مصدر مهد ، بمعنى سوى الشئ ، وأزال منه ما يجعله مضطربا متنافرا ، ومنه مهد الصبى . أى المكان المعد لراحته . والمراد بالتمهيد هنا تيسير الأمور ، ونفاذ الكلمة ، وجمع وسائل الرياسة له . أى جعلت له مالا كثيرا ، وأولادا شهودا ، وفضلا عن ذلك ، فقد هيأت له وسائل الراحة والرياسة تهيئة حسنة ، أغنته عن الأخذ والرد مع قومه ، بل صار نافذ الكلمة فيهم بدون عناء أو تعب . فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أن الله - تعالى - قد أعطى الوليد بن المغيرة ، جماع ما يحتاجه الإِنسان فى هذه الحياة ، فقد أعطاه المال الوفير ، والبنين الشهود ، والجاه التام الذى وصل إليه بدون جهد أو تعب . وقوله - سبحانه - { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } بيان لما جبل عليه هذا الإِنسان من طمع وشره … أى مع إمدادى له بكل هذه النعم ، هو لا يشبع ، بل يطلب المزيد منها لشدة حرصه وطمعه . و " ثم " هنا للاستبعاد والاستنكار والتأنيب ، فهى للتراخى الرتبى ، والجملة معطوفة على قوله - قبل ذلك " وجعلت ومهدت … " أى أعطيته كل هذه النعم ، ثم بعد ذلك هو شره لا يشبع ، وإنما يطلب المزيد منها ثم المزيد . وقوله - تعالى - { كَلاَّ } زجر وردع وقطع لرجائه وطمعه ، وحكم عليه بالخيبة والخسران . أى كلا ، لن أعطيه شيئا مما يطمع فيه ، بل سأمحق هذه النعم من بين يديه ، لأنه قابلها بالجحود والبطر ، ومن لم يشكر النعم يعرضها للزوال ، ومن شكرها زاده الله - تعالى - منها ، كما قال - سبحانه - { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وقوله { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } تعليل للزجر والردع وقطع الرجاء . أى كلا لن أمكنه مما يريده ويتمناه … لأنه كان إنسانا شديد المعاندة والإِبطال لآياتنا الدالة على وحدانيتنا ، وعلى صدق رسولنا فيما يبلغه عنا . ومن مظاهر ذلك أنه وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر … قال مقاتل مازال الوليد بعد نزول هذه الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك . ثم بين - سبحانه - ما أعده له من عذاب أليم فقال { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } . والإِرهاق الإِتعاب الشديد ، وتحميل الإِنسان مالا يطيقه . يقال فلان رِهِقَه الأمر يرهَقُه ، إذا حل به بقهر ومشقة لا قدرة له على دفعها . ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } وقوله - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً … } والصعود العقبة الشديدة ، التى لا يصل الصاعد نحوها إلا بمشقة كبيرة ، وتعب قد يؤدى إلى الهلاك والتلف . وهذه الكلمة صيغة مبالغة من الفعل صَعِد . وهذه الآية الكريمة فى مقابل قوله - تعالى - قبل ذلك { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أى أن هذا الجاه الذى أتاه فى الدنيا بدون تعب … سيلقى فى الآخرة ما هو نقيضه من تعب وإذلال … قال صاحب الكشاف قوله { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أى سأغشيه عقبة شاقة المصعد . وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذى لا يطاق . وعن النبى صلى الله عليه وسلم " يكلف أن يصعد عقبة فى النار ، كلما وضع عليها يده ذابت ، فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله عليها ذابت ، فإذا رفعها عادت " وعنه صلى الله عليه وسلم " الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا " . ثم صور - سبحانه - حال هذا الشقى تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أى إن هذا الشقى ردد فكره وأداره فى ذهنه ، وقدَّر وهيأ فى نفسه كلاما شنيعا يقوله فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفى حق القرآن الكريم . يقال قدَّر فلان الشئ فى نفسه ، إذا هيأه وأعده … والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر ، وتقرير لاستحقاقه له ، أو بيان لمظاهر عناده … وقوله - سبحانه - { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } تعجيب من تفكيره وتقديره ، وذم شديد له على هذا التفكير السَّيِّئ … أى إنه فكر مليا ، وهيأ نفسه طويلا للنطق بما يقوله فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفى حق القرآن ، { فقتل } أى فلعن ، أو عذب ، وهو دعاء عليه { كَيْفَ قَدَّرَ } أى كيف فكر هذا التفكير العجيب البالغ النهاية فى السوء والقبح . وقوله { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } تكرير للمبالغة فى ذمه . والتعجيب من سوء تقديره ، وفى الدعاء عليه باللعن والطرد من رحمته - تعالى - . والعطف بثم لافادة التفاوت فى الرتبة ، وأن الدعاء عليه والتعجيب من حاله فى الجملة الثانية ، أشد منه فى الجملة الأولى . وقوله - تعالى - بعد ذلك { ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ … } تصوير آخر لحالة هذا الشقى ، يرسم حركات جسده ، وخلجات قلبه ، وتقاطيع وجهه … رسما بديعا ، يثير فى النفوس السخرية من هذا الشقى . أى إنه فكر تفكيرا مليا ، وقدر فى نفسه ما سيقوله فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم تقديرا طويلا … ولم يكتف بكل ذلك ، بل فكر وقدر { ثُمَّ نَظَرَ } أى ثم نظر فى وجوه من حوله نظرات يكسوها الجد المصطنع المتكلف ، حتى لكأنه يقول لهم اسمعوا وعوا لما سأقوله لكم … { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } أى ثم قطب ما بين عينيه حين استعصى عليه أن يجد فى القرآن مطعنا ، وكلح وجهه ، وتغير لونه ، وارتعشت أطرافه ، حين ضاقت عليه مذاهب الحيل ، فى أن يجد فى القرآن مطعنا . يقال عَبسَ فلان يَعْبِسُ عبوسا ، إذا قطب جبينه . وأصله من العبس وهو ما تعلق بأذناب الإِبل من أبوالها وأبعارها بعد أن جف عليها . ويقال بَسر فلان يَبسُر بسورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشئ . ومنه قوله - تعالى - { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } أى ثم إنه بعد هذا التفكير والتقدير ، وبعد هذا العبوس والبسور ، بعد ذلك أدبر على الحق ، واستكبر عن قبوله . { فقال } - على سبيل الغرور والجحود - { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أى ما هذا القرآن الذى يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم علينا ، إلا سحر مأثور أى مروى عن الأقدمين ، ومنقول من أقوالهم وكلامهم . وجملة { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } بدل مما قبلها ، أى ما هذا القرآن إلا سحر مأثور عن السابقين ، فهو من كلام البشر ، وليس من كلام الله - تعالى - كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى " ثم " الداخلة فى تكرير الدعاء ؟ قلت الدالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ، ونحوه قوله ألا يا اسلَمِى ثم اسلَمِى ، ثُمَّتَ اسلمِى . فإن قلت ما معنى المتوسطة بين الأفعال التى بعدها ؟ قلت الدلالة على أنه قد تأتى فى التأمل والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخيا وتباعدا … فإن قلت فلم قيل { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ … } بالفاء بعد عطف ما قبله بثم ؟ قلت لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب ، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث . فإن قلت فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين ؟ قلت لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الوعيد الشديد الذى توعد به هذا الشقى الأثيم فقال { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } وسقر اسم لطبقة من طبقات جهنم ، والجملة الكريمة بدل من قوله { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أى سأحرقه بالنار المتأججة الشديدة الاشتعال . وقوله { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } تهويل من حال هذه النار وتفظيع لشدة حرها . أى وما أدراك ما حال سقر ؟ إن حالها وشدتها لا تستطيع العبارة أن تحيط بها . وجملة { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } بدل اشتمال من التهويل الذى أفادته جملة { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } أى هذه النار لا تبقى شيئا فيها إلا أهلكته ، ولا تترك من يلقى فيها سليما ، بل تمحقه محقا ، وتبلعه بلعا ، وتعيده - بأمر الله تعالى - إلى الحياة مرة أخرى ليزداد من العذاب ، كما قال - تعالى - { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } وقوله { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } صفة ثالثة من صفات سقر . ومعنى { لَوَّاحَةٌ } مُغَيِّرة للبشرَات . مُسَوِّدة للوجوه ، صيغة مبالغة من اللَّوْح بمعنى تغيير الشئ يقال فلان لوَّحته الشمس ، إذا سَوَّدَتْ ظاهرهَ وأطرافه . والبشر جمع بشرة وهى ظاهر الجلد . أى أن هذه النار من صفاتها - أيضا - أنها تغير ألوان الجلود ، فتجعلها مسودة بعد أن كانت على غير هذا اللون ، وأنها لا تنزل بالأجساد من الآلام ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - . وقوله - تعالى - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } صفة رابعة من صفات سقر . أى على هذه النار تسعة عشر ملكا ، يتولون أمرها ، وينفذون ما يكلفهم الله - تعالى - فى شأنه . قال القرطبى قوله - تعالى - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أى على سقر تسعة عشر من الملائكة ، يَلْقَوْن فيها أهلَها . ثم قيل على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها مالك وثمانية عشر ملكا . ويحتمل أن يكون التسعة عشر نقيبا . ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم ، وعلى هذا أكثر المفسرين … ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته وحكمته ، وابتلائه لعباده بشتى أنواع الابتلاء ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه . فقال - تعالى - { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً … } .