Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 38-56)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { رَهِينَةٌ } خبر عن { كُلُّ نَفْسٍ } ، وهو بمعنى مرهونة . أى كل نفس مرهونة عند الله - تعالى - بكسبها ، مأخوذة بعملها ، فإن كان صالحا أنجاها من العذاب ، وإن كان سيئا أهلكها ، وجعلها محلا للعقاب . قالوا وإنما كانت مرهونة ، لأن الله - تعالى - جعل تكليف عباده كالدَّين عليهم ، ونفوسهم تحت استيلائه وقهره ، فهى مرهونة ، فمن وفى دينه الذى كلف به ، خلص نفسه من عذاب الله - تعالى - الذين نزل منزلة علامة الرهن ، وهو أخذه فى الدين ، ومن لم يوف عذب . والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } استثناء متصل أى أن كل نفس مرهونة بعملها … إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنين الصادقون فإنهم مستقرون { فِي جَنَّاتٍ } عالية { يَتَسَآءَلُونَ . عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أى يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين . وهذا التساؤل إنما يكون قبل أن يروهم ، فإذا ما رأوهم سألوهم بقوله { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أى قال أصحاب اليمين للمجرمين ما الذى أدخلكم فى سقر ، وجعلكم وقودا لنارها وسعيرها ؟ والسؤال إنما هو على سبيل التوبيخ والتحسير لهؤلاء المجرمين . وعبر - سبحانه - بقوله { مَا سَلَكَكُمْ … } للإِشعار بأن الزج بهم فى سقر ، كان بعنف وقهر ، لأن السلك معناه إدخال شئ بصعوبة وقسر ، ومنه قوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ . لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } ثم حكى - سبحانه - ما رد به المجرمون على أصحاب اليمين فقال { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ . حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } . أى قال المجرمون لأصحاب اليمين الذى أدى بنا إلى الإِلقاء فى سقر ، أننا فى الدنيا لم نقم بأداء الصلاة الواجبة علينا ، ولم نعط المسكين ما يستحقه من عطاء ، بل بخلنا عليه ، وحرمناه حقوقه … وكنا - أيضا - فى الدنيا نخوض فى الأقوال السيئة وفى الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها ، دون أن نتورع عن اجتناب شئ منها . وأصل الخوض الدخول فى الماء ، ثم استعير للجدال الباطل ، وللأحاديث التى لا خير من ورائها . وكنا - أيضا - نكذب بيوم القيامة ، وننكر إمكانه ووقوعه ، وبقينا على هذا الإِنكار والضلال { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } أى حتى أدركنا الموت ، ورأينا بأعيننا صدق ما كنا نكذب به . فأنت ترى أن هؤلاء المجرمين قد اعترفوا بأن الإِلقاء بهم فى سقر لم يكن على سبيل الظلم لهم ، وإنما كان بسبب تركهم للصلاة وللإِطعام ، وتعمدهم ارتكاب الباطل من الأقوال والأفعال ، وتكذيبهم بيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء . وقوله - سبحانه - { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } حكم منه - سبحانه - عليهم بحرمانهم ممن يشفع لهم أو ينفعهم . أى أن هؤلاء المجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة أحد لهم ، فيما لو تقدم أحد الشفاعة لهم على سبيل الفرض والتقدير ، وإنما الشفاعة تنفع غيرهم من المسلمين . والاستفهام فى قوله { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ . فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } للتعجيب من إصرارهم على كفرهم ، ومن إعراضهم عن الحق الذى دعاهم إليه نبيهم صلى الله عليه وسلم . والمراد بالتذكرة التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته ، والحمر جمع حمار ، والمراد به الحمار الوحشى المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له . وقوله { مُّسْتَنفِرَةٌ } أى شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة . والقسورة الأسد ، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها ، وقيل القسورة اسم لجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية ، ولا واحد له من لفظه ، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية فى الضخامة والقوة . من القسر بمعنى القهر . أى ما الذى حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين ، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإِعراض عن مواعظ القرآن الكريم ، وعن هداياته وإرشاداته ، وأوامره ونواهيه … حتى لكأنهم - فى شدة إعراضهم عنه ، ونفورهم منه - حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها ، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها ؟ . قال صاحب الكشاف شبههم - سبحانه - فى إعراضهم عن القرآن ، واستماع الذكر والموعظة ، وشرادهم عنه - بحمر جدت فى نفارها مما أفزعها . وفى تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ، وتهجين لحالهم بين ، كما فى قوله - تعالى - { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ، واطرادها فى العدو ، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب ، فى وصف الإِبل ، وشدة سيرها ، بالحمر ، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص … والتعبير بقوله { فَمَا لَهُمْ … } وما يشبهه قد كثر استعماله فى القرآن الكريم ، كما فى قوله - تعالى - { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ … } والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم ، أو على معتقد من معتقداتهم … مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك . وقال - سبحانه - { عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ } بالتعميم ، ليشمل إعراضهم كل شئ يذكرهم بالحق ، ويصرفهم عن الباطل . وقوله - سبحانه - { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } معطوف على كلام مقدر يقتضيه المقام ، وهو بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة . والصحف جمع صحيفة ، وهى ما يكتب فيها . ومنشره صفة لها والمراد بها الصحف المفتوحة غير المطوية . بحيث يقرؤها كل من رآها . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتى لكل واحد منا بكتاب من السماء ، عنوانه من رب العالمين ، إلى فلان من فلان ، نؤمر فى هذا الكتاب باتباعك . أى إن هؤلاء الكافرين لا يكتفون بمواعظ القرآن … بل يريد كل واحد منهم أن يعطى صحفا مفتوحة ، وكتبا غير مطوية ، بحيث يقرؤها كل من يراها . وفيها الأمر من الله - تعالى - لهم بوجوب اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ … } وقوله - سبحانه - { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } إبطال آخر لكلامهم ، وزجر لهم عن هذا الجدال السخيف . أى كلا ليس الأمر كما أرادوا وزعموا بل الحق أن هؤلاء القوم لا يخافون الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، لأنهم لو كانوا يخافون لما اقترحوا تلك المقترحات السخيفة المتعنتة … وقوله - تعالى - بعد ذلك { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } زجر آخر مؤكد للزجر السابق . أى كلا ثم كلا ، لن نمكنهم مما يريدون ، ولن نستجيب لمقترحاتهم السخيفة … لأن القرآن الكريم فيه التذكير الكافى ، والوعظ الشافى ، لمن هو على استعداد للاستجابة لذلك . فالضمير فى { إنه } يعود إلى القرآن ، لأنه معلوم من المقام ، والجملة بمنزلة التعليل للردع عن سؤالهم الذى اقترحوا فيه تنزيل صحف مفتوحة من عند الله - تعالى - تأمرهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . وقوله - سبحانه - { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } تفريع عن كون القرآن تذكرة وعظة لمن كان له قلب يفقه ، أو عقل يعقل . أى إن القرآن الكريم مشتمل على ما يذكر الإِنسان بالحق ، وما يهديه إلى الخير والرشد ، فمن شاء أن يتعظ به اتعظ ، ومن شاء أن ينتفع بهداياته انتفع ، ومن شاء أن يذكر أوامره ونواهيه وتكاليفه … فعل ذلك ، وظفر بما يسعده ، ويشرح صدره . والتعبير بقوله - تعالى - { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } يشعر بأن تذكر القرآن وحفظه . والعمل بأحكامه وإرشاداته … فى إمكان كل من كان عنده الاستعداد لذلك . أى إن التذكر طوع مشيئتكم - أيها الناس - متى كنتم جادين وصادقين ومستعدين لهذا التذكر ، فاعملوا لذلك بدون إبطاء أو تردد … ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } . أى فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك ، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ . لا يتم بمجرد مشيئتكم ، وإنما يتم فى حال مشيئة الله - تعالى - وإرادته ، فهو - سبحانه - أهل التقوى ، أى هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه ، وهو - عز وجل - " أهل المغفرة " أى هو - وحده - صاحب المغفرة لذنوب عباده ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن ، لا يتم إلا بعد إرادة الله - تعالى - ومشيئة ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله ، التى لا يعلمها أحد سواه . أخرج الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } فقال قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله ، فمن اتقانى فلم يجعل معى إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " .