Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 55-59)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الفخر الرازى اعلم أنه - تعالى - لما وصف كل الكفار بقوله { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أفرد بعضهم بمزية فى الشر والعناد فقال { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } أى فى حكمه وعلمه من حصلت له صفتان الأولى الكافر الذى يكون مستمراً على كفره مصرا عليه … الثانية أن يكون ناقضا للعهد على الدوام … قال ابن عباس هم بنو قريظة ، فإنهم نقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعانوا عليه المشركين بالسلاح فى يوم بدر ، ثم قالوا أخطأنا ، فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق … والدواب جمع دابة . وهى كل ما يدب على الأرض قال - تعالى - { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ … } قال الجمل وإطلاق الدابة على الإِنسان إطلاق حقيقى ، لما ذكروه فى كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا . وفى الصباح " الداية كل حيوان فى الأرض مميزاً وغير مميز " . والمعنى إن شر ، ما يدب على الأرض { عِندَ ٱللَّهِ } أى فى حكمه وقضائه { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى الذين أصروا على الكفر ولجوا فيه . وقد وصفهم - سبحانه - بأنهم شر الدواب لا شر الناس ، للإِشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى به الناس من تعقل وتدبر للأمور ، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس ، إلا أنه عند إطلاقه عليهم يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى الدواب التى لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء ، وفى وصفه - سبحانه - لهم بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم ، لأنهم ليسوا دوابا فحسب بل هم شرها وأخسها . وقوله { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تذييل جئ به على وجه الاعتراض بالبيان أى أنهم - بسبب إصرارهم على الكفر - صار الإِيمان بعيدا عنهم ، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا مستمرون فى الضلال والعناد . وقوله { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ … } بدل من الموصول الأول وهو قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } أو عطف بيان له . أى إن شر الدواب عند الله الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه ، الذين { عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أى أخذت منهم عهدهم ، ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة دون أن يفوا بعهودهم ولو مرة واحدة من المرات المتعددة . فقوله { عَاهَدْتَّ } مضمن معنى الأخذ ، ولذا عدى بمن . قال الآلوسى قوله { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ … } بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان ، أو نعت ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو نصب على الذم ، وعائد الموصل قيل ضمير الجمع المجرور ، والمراد عاهدتم ، و { مِن } للإِيذان بأن المعاهدة - التى هى عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين - معتبرة هنا من حيث أخذه - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض ، لا إعطاؤه - عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدهم ، وقال أبو حيان تبعيضية ، لأن المباشر لا كلهم . . " وقوله { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } معطوف على الصلة . وكان العطف " بثم " المفيدة للتراخى ، للإِيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود ، وبين ما تردوا فيه من نقض لها ، واستهانة بها . وجئ بصيغة المضارع { يَنقُضُونَ } المفيدة للحال والاستقبال ، للدلالة على تعدد النقض وتجدده ، وأنهم على نيته فى كل مرة يعاهدون فيها غيرهم . وقوله { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } فى موضع الحال من فاعل { يَنقُضُونَ } . أى أن هؤلاء القوم دأبهم نقض العهود والمواثيق فى كل وقت ، ومع ذلك فحالهم وشأنهم أنهم لا يشعرون خلال نقضهم للعهود بأى تحرج أو خجل ، بل يرتكبون ما يرتكبون من المنكرات دون أن يتقوا عارها ، أو يخشوا سوء عاقبتها . ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم فى كل مرة بدون حياء أو تدبر للعواقب فقال { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فالفاء فى قوله { فَإِمَّا } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . وقوله { تَثْقَفَنَّهُمْ } من الثقف بمعنى الحذق فى إدراك الشئ وفعله . قال الراغب يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق فى النظر ، ثم يتجوز فيه فيستعمل فى الإِدراك وإن لم تكن معه ثقافته . قال - تعالى - { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ } . وقوله { فَشَرِّدْ بِهِم } التشريد وهو عبارة عن التفريق مع الاضطراب ، يقال شردت بنى فلان ، أى قلعتهم عن مواطنهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر @ أطوف فى الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بى حكيم @@ أى مخافة أن يسمع بى ويطردنى حكيم ، وحكيم رجل من بنى سليم كانت قريش قد ولته الأخذ على أيدى السفهاء . والمعنى إنك يا محمد إذا ما أدركت فى الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم وظفرت بهم - وهم بنو قريظة ومن لف لفهم - … فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يتفرق معه جمع كل ناقض للعهد ، ويفزع منه كل من كان على شاكلتهم فى الكفر ونقض العهود ، ويعتبر به كل من سمعه من أهل مكة وغيرهم . فالباء فى قوله { فَشَرِّدْ بِهِم } للسببية ، وقوله { مَّنْ خَلْفَهُمْ } مفعول شرد . والمراد بمن خلفهم كفار مكة وغيرهم من الضالين ، أى افعل ببنى قريظة ما يشرد غيرهم خوفا وفزعا . وقوله { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أى لعل أولئك المشردين يتعظون بهذا القتل والتنكيل الذى نزل بهؤلاء الناقضين لعهودهم فى كل مرة ، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد . هذا ، وإن تلك الآية الكريمة لمن أحكم الآيات التى ترشد المؤمنين إلى وجوب أخذ المستمرين على كفرهم وعنادهم ونقضهم العهود أخذاً شديداً رادعا … حتى يبقى للمجتمع الإِسلامى أمانه واستقراره وهيبته أمام أعدائه . إن الآية الكريمة ترسم صورة بديعة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذى يكفى السماع به للهرب والشرود ، فما بال من يحل به هذا الأخذ الشديد ؟ إنها الضربة المروعة ، بأمر الله - تعالى - رسوله أن ينزلها على رأس كل مستحق لها بسبب كفره وتلاعبه بالعهود … وبذلك تبقى لدين الله هيبته وسطوته . هذا هو حكم المصرين على كفرهم الناقضين لعهودهم … أما الذين تخشى منهم الخيانة فقد بين - سبحانه - حكمهم بقوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } . وقوله { تَخَافَنَّ } من الخوف والمراد به هنا العلم . وقوله { فَٱنْبِذْ } من النبذ بمعنى الطرح ، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم ، فشبه - سبحانه - العهد بالشئ الذى يرمى لعدم الرغبة فيه ، وثبت النبذ له على سبيل التخييل ، ومفعول " فانبذ " محذوف أى فانبذ إليهم عهودهم . قال الجمل وقوله { عَلَىٰ سَوَآء } حال من الفاعل والمفعول معا ، أى فاعل الفعل وهو ضمير النبى - صلى الله عليه وسلم - ومفعوله وهو المجرور بإلى . أى حال كونكم مستوين فى العلم بطرح العهد . فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك ، وعلمهم به بإعلامك إياهم ، فكأنه قيل فى الآية فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه ، ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك " . والمعنى وإما تعلمن - يا محمد - من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم ، بأمارات تلوح لك تدل على غدرهم ، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم ، حتى تكون أنت وهم فى العلم بنبذ العهد سواء ، لأن الله - تعالى - لا يحب الخائنين وإن من مظاهر الخيانة التى يبغضها الله - تعالى - أن يحارب أحد المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده . قال ابن كثير " قال الإِمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم بن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر ، وفاء لا غدرا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ، ولا يشدها حتى ينقضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " . قال فبلغ ذلك معاوية فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة . ثم قال ابن كثير ، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسى عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان فى صحيحه من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذى حسن صحيح . وروى الإِمام أحمد " عن سلمان الفارسى أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه دعونى ادعوهم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ، فقال إنما كنت رجلا منكم فهدانى الله إلى الإِسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ، يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله " . وقال الفخر الرازى قال أهل العلم آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً ، أو ظهورا مقطوعا به . فإن كان الأول وجب الإِعلام على ما هو مذكور فى هذه الآية ، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبى - صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله ، فحصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه ، فهنا يجب على الإِمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب . أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به ، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد ، وذلك كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة ، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم فى ذمة النبى - صلى الله عليه وسلم - وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة . أى أنهم لم يعلموا بجيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان . وبذلك ترى أن تعاليم الإِسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والشر والأمان … وتحقر من شأن الخيانة والخائنين ، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله ، وبالبعد عن رضوانه ومحبته . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } . وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء . وقوله { يُعْجِزُونَ } من العجز ، وأصله - كما يقول الراغب - التأخر عن الشئ … ثم صار فى التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة … والعجوز سميت بذلك لعجزها فى كثير من الأمور … والمعنى - على القراءة بالياء - ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه … كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم فى كل وقت . . وأن نجاتهم من القتل أو السر فى الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين فى الآخرة . وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثانى جملة { سَبَقُوۤاْ } . وأما على القراءة الثانية { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هو المفعول الأول . وجملة { سَبَقُوۤاْ } هى المفعول الثانى . أى ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا بخيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا فى مأمن منا … كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم فى أى وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ … وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين فى النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العاقبة . ثم أمر - سبحانه - المؤمنين باعداد وسائل القوة التى بها يصلون إلى النصر ، وإلى بعث الرعب فى قلوب أعدائهم … فقال - عز وجل - { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ … } .