Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 81, Ayat: 15-29)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والفاء فى قوله - تعالى - { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ … } للتفريع على ما تقدم من تحقيق وقوع البعث ، وهى تعطى - أيضاً - معنى الإِفصاح ، و " لا " مزيدة لتأكيد القسم ، وجواب القسم قوله - تعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } . و { الخنس } - بزنة رُكَّع - جمع خانس ، والخنوس الاستخفاء والاستتار ، يقال خنست الظبية والبقرة ، إذا اختفت فى بيتها . و { الجوار } جمع جارية ، وهى التى تجرى بسرعة ، من الجرى بمعنى الإِسراع فى السير . و { الكنس } جمع كانس . يقال كنس الظبى ، إذا دخل كناسه - بكسر الكاف - وهو البيت الذى يتخذه للمبيت ، وسمى بذلك لأنه يتخذه من أغصان الأشجار ، ويكنس الرمل إليه حتى يكون مختفيا عن الأعين . وهذه الصفات ، المراد بها النجوم ، لأنها بالنهار تكون مختفية عن الأنظار ، ولا تظهر إلا بالليل ، فشبهت بالظباء التى تختفى فى بيوتها ولا تظهر إلا فى أوقات معينة . أى إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن البعث حق … فأقسم بالنجوم التى تخنس بالنهار ، أى يغيب ضؤوها عن العيون بالنهار ، ويظهر بالليل ، والتى تجرى من مكان إلى آخر بقدرة الله - تعالى - ثم تكنس - أى تستتر وقت غروبها - كما تتوارى الظباء فى كُنُسِها … إن هذا القرآن لقول رسول كريم . قال ابن كثير ما ملخصه قوله - تعالى - { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ . ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } هى النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس ومجاهد . وقال بعض الأئمة وإنما قيل للنجوم " الخنس " أى فى حال طلوعها ، ثم هى جوار فى فلكها ، وفى حال غيبوبتها ، يقال لها " كنس " ، من قول العرب . أوى الظبى إلى كناسه إذا تغيب فيه . وفى رواية عن ابن عباس أنها الظباء ، وفى أخرى أنها بقر الوحش حين تكنس إلى الظل أو إلى بيوتها . وتوقف ابن جرير فى قوله { بِٱلْخُنَّسِ . ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } هل هى النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال ويحتمل أن يكون الجميع مرادا … وقوله { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } معطوف على ما قبله . وداخل فى حيز القسم . وقوله { عسعس } أدبر ظلامه أو أقبل ، فهذا اللفظ من الألفاظ التى تستعمل فى الشئ وضده ، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام ، لمقابلته بالصبح إذا تنفس ، أى أضاء وأسفر وتبلج . وقيل العسعسة رقة الظلام وذلك فى طرفى النهار ، فهو من المشترك المعنوى ، وليس من الأضداد ، أى أقبل وأدبر معاً . أى وحق النجوم التى تغيب بالنهار ، وتجرى فى حال استتارها … وحق الليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا أقبل بضيائه . { إِنَّهُ } أى القرآن الكريم { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو جبريل - عليه السلام - الذى أرسله ربه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه وحيه - تعالى - . وأقسم الله - تعالى - بهذه الأشياء ، لأنها فى حركاتها المختلفة ، من ظهور وأفول ، ومن إقبال وإدبار … تدل دلالة ظاهرة على قدرة الله - تعالى - ، وعلى بديع صنعه فى خلقه . ونسب - سبحانه - القول إلى الرسول - وهو جبريل - لأنه هو الواسطة فى تبليغ الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم . ثم وصف - سبحانه - أمين وحيه جبريل بخمس صفات أولها قوله { كريم } أى ملك شريف ، حسن الخلق ، بهى المنظر ، ثانيها { ذِي قُوَّةٍ } أى صاحب قوة وبطش . كما قال - تعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ … } ثالثها { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } أى أن من صفات جبريل - عليه السلام - أنه ذو مكانة رفيعة ، ومنزلة عظيمة عند الله - تعالى - . رابعها قوله - تعالى - { مطاع } أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين . وخامسها قوله - سبحانه - { ثَمَّ أَمِينٍ } و " ثم " بفتح الثاء - ظرف مكان للبعيد . والعامل ما قبله أو ما بعده ، والمعنى أنه مطاع فى السموات عند ذى العرش ، أو أمين فيها ، أى يؤدى ما كلفه الله - تعالى - به بدون أية زيادة أو نقص . قال الشوكانى ومن قال إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة ، مطاع يطيعه من أطاع الله ، أمين على الوحى . وقوله { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإِشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره فى شئ ، وأنهم افتروا عليه ذلك ، عن علم منهم ، بأنه أعقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة فى جواب القسم . فأقسم - سبحانه - بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتى القرآن من جهة نفسه . فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبى صلى الله عليه وسلم بأكمل وجه ، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم - عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره ، وسمو أخلاقه - أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا . وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - قبل ذلك { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فهو من جملة المقسم عليه . والمقصود بهذه الرؤية رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجبريل - عليه السلام - لأول مرة ، على الهيئة التى خلقه الله عليها ، عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فى غار حراء ، وكان صلى الله عليه وسلم قد سأل جبريل أن يريه نفسه ، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها . والأفقهو الفضاء الواسع الذى يبدو للعين ما بين السماء والأرض . والمبين وصف للأفق ، أى بالأفق الواضح البين ، الذى لا تشتبه معه المرئيات . والمعنى ووالله لقد رأى صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم جبريل ، بصورته التى خلقه الله عليها ، بالأفق الواضح البين ، الذى لا تلتبس فيه المرئيات ، ولا مجال فيه للأوهام والتخيلات . والمقصود من الآية الكريمة الرد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى جبريل . كذبوه واستهزءوا به ، وتأكيد أن هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة ، لا مجال معها للتشكيك أو اللبس . قال الإِمام ابن كثير وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } يعنى ولقد رأى محمد جبريل الذى يأتيه بالرسالة عن الله - عز وجل - وعلى الصورة التى خلقه الله عليها ، له ستمائه جناح { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أى البين ، وهى الرؤية الأولى التى كانت بالبطحاء - أى بالمكان المجاور لغار حراء . وهى المذكورة فى قوله - تعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ . ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ . وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ . فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ … } والضمير فى قوله - تعالى - { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعبر عنه قبل ذلك " بصاحبكم " . والغيب ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم ، لأن الله - تعالى - قد استأثر بعلمه . والضنين هو البخيل بالشئ ، مأخوذ من الضن - بالكسر والفتح - بمعنى البخل . قال الآلوسى " وما هو " أى رسول الله صلى الله عليه وسلم " على الغيب " أى على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب " بضنين " من الضن - بكسر الضاد وفتحها - بمعنى البخل ، أى ببخيل ، أى لا يبخل بالوحى ، ولا يقصر فى التعليم والتبليغ ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم ، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا . وقرأ ابن كثير والكسائى وأبو عمر { بِضَنِينٍ } - بالظاء - أى وما هو على الغيب بمتهم ، من الظنة - بالكسر - بمعنى التهمة . ثم قال ورجحت هذه القراءة ، لأنها أنسب بالمقام ، لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونفى التهمة ، أولى من نفى البخل . وهذا القول لا نوافق الآلوسى - رحمه الله - عليه ، لأن القراءة متى ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز التفاضل بينها وبين غيرها التى هى مثلها فى الثبوت ، والقراءتان هنا سبعيتان ، ومن ثم فلا ينبغى التفاضل بينهما . والمعنى عليها واضح ولا تعارض فيه . أى وما محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل بتبليغ الوحى ، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه ، وما هو - أيضا - بمتهم فيما يبلغه عن ربه ، لأنه صلى الله عليه وسلم سيد أهل الصدق والأمانة . وقوله - سبحانه - { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } والضمير هنا يعود على القرآن الكريم . أى وليس هذا القرآن الكريم ، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقول شيطان مرجوم مسترق للسمع … وإنما هو كلام الله - تعالى - الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وهذا رد آخر على المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم إنما هو من باب الكهانة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو كاهن ، تلقنه الشياطين هذا القرآن . وقوله - سبحانه - { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } جملة معترضة بين ما سبقها ، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم . والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ ، على الحجج السابقة ، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وليس من عند غيره . و { أين } اسم استفهام عن المكان ، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع ، وهو منصوب بقوله { تذهبون } . أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه ؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه . قال صاحب الكشاف قوله { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا فى بنيات الطريق - أى فى الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى - أين تذهب ؟ مثلت حالهم فى تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل . { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى ما هذا القرآن الكريم ، إلا تذكير وإرشاد وهدايات للبشر جميعا . وهذا الذكر العظيم إنما هو { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } أى هو نافع لمن شاء منكم - أيها الناس - أن يستقيم على طريق الحق ، وأن يلزم الرشاد ويترك الضلال . والجملة الكريمة بدل مما قبلها ، للإِشعار بأن الذين استجابوا لهدى القرآن قد شاءوا لأنفسهم الهداية والاستقامة . فالمقصود بهذه الجملة الثناء عليهم ، والتنويه بشأنهم . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان أن مشيئته - تعالى - هى النافذة ، فقال { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } . أى وما تشاءون الاستقامة أو غيرها ، إلا إذا شاءها وأرادها الله - تعالى - رب العالمين ، إذ مشيئة الله - تعالى - هى النافذة ، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته - تعالى - . فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن … إلا إذا أيدتها مشيئة الله - عز وجل - . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .