Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 1-17)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الطارق اسم فاعل من الطروق . والمراد به هنا النجم الذى يظهر ليلا فى السماء . قال القرطبى ما ملخصه الطارق النجم ، اسم جنس سمى بذلك لأنه يطرق ليلا ، ومنه الحديث نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا … والعرب تسمى كل قاصد فى الليل طارقا . يقال طرق فلان ، إذا جاء ليلا … وأصل الطرق الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمى قاصد الليل طارقا ، لاحتياجه فى الوصول إلى الدق . وفى الحديث " أعوذ بك من طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن … " . وقوله - تعالى - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ } تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإِقسام به ، فالاستفهام مستعمل فى تعظيم أمره . وقد جاء التعبير بقوله - تعالى - { وَمَآ أَدْرَاكَ … } ثلاث عشرة مرة فى القرآن الكريم ، كلها جاء الخبر بعدها - كما هنا - ، وكما فى قوله - تعالى - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } وكما فى قوله - سبحانه - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ . ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ . يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً … } إلا واحدة لم يأت الخبر بعدها ، وهى قوله - تعالى - { ٱلْحَاقَّةُ . مَا ٱلْحَآقَّةُ . وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ … } أما التعبير بقوله - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ … } فقد جاء ثلاث مرات ، ولم يأت الخبر بعد واحدة من هذه المرات . قال - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } قال القرطبى قال سفيان كل ما فى القرآن وما أدراك فقد أخبر به ، وكل شئ قال فيه وما يدريك ، لم يخبر به . وقوله { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } بيان وتفسير للطارق ، والثاقب . أى المضئ الذى يثقب الظلام ويخرقه بنوره فينفذ فيه ويبدده . والجملة الكريمة مستأنفة ، وهى جواب عن سؤال مقدر نشأ مما قبله ، كأنه قيل وما هو الطارق ؟ فكان الجواب هو النجم الثاقب . وقوله - سبحانه - { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } جواب القسم وما بينهما كلام معترض لتفخيم شأن المقسم به … والحافظ هو الذى يحفظ ما كلف بحفظه ، لمقصد معين . أى وحق السماء البديعة الصنع ، وحق النجم الذى يطلع فيها فيبدد ظلام الليل ، ما كل نفس من الأنفس إلا وعليها من الملائكة من يحفظ عملها ويسجله ، سواء أكان هذا العمل خيرا أم شرا . قال الإِمام الشوكانى ما ملخصه قرأ الجمهور بتخفيف الميم فى قوله لما ، فتكون " إن " مخففة من الثقيلة ، فيها ضمير الشأن المقدر ، وهو اسمها ، واللام هى الفارقة - بين " إن " النافية ، و " إن " المخففة من الثقيلة - وما مزيدة . أى إن الشأن كل نفس لعليها حافظ . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم فى قوله { لما } ، فتكون " إن " نافية ، و " لما " بمعنى إلا . أى ما كل نفس إلا عليها حافظ . والحافظ هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها . وقيل الحافظ هو الله - تعالى - وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح . والأول أولى لقوله - تعالى - { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } وقوله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } وحفظ الملائكة إنما هو من حفظه - تعالى - . لأنهم لا يحفظون إلا بأمره - عز وجل - . والمقصود من الآية الكريمة تحقيق تسجيل أعمال الإِنسان عليه ، وأنه سيحاسب عليها وسيجازى عليها بما يستحقه من ثواب أو عقاب . وبعد أن بين - سبحانه - أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أعمالها ، أتبع ذلك بأمر الإِنسان بالتفكر فيما ينفعه ، بأن يعتبر بأول نشأته ، وليعلم أن من خلقه من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى ، فقال - تعالى - { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ … } . والفاء فى قوله { فَلْيَنظُرِ … } للتفريع على ما تقدم ، وهى بمعنى الفصيحة ، وقوله { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } جواب الاستفهام فى قوله - سبحانه - { مِمَّ خُلِقَ } والمقصود بالاستفهام هنا الحث والحض على التفكر والتدبر . و " دافق " اسم فاعل من الدفق ، وهو الصب للشئ بقوة وسرعة ، يقال تدفق الماء إذا سال باندفاع وسرعة . والمراد به هنا الماء الذى تخرج من الرجل ويصب فى رحم المرأة . والصلب يطلق على فقار الظهر بالنسبة للرجل ، والترائب جمع تربية ، وهى العظام التى تكون فى أعلى صدر المرأة ، ويعبرون عنها بقولهم موضع القلادة من المرأة . أى إذا كان الأمر كما ذكرت لكم - أيها الناس - ، من أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أقوالها وأفعالها … فلينظر الإِنسان منكم نظر تأمل وتدبر واعتبار ، وليسأل نفسه من أى شئ خلق ؟ لقد خلقه الله - تعالى - بقدرته ، من ماء متدفق ، يخرج بقوة وسرعة من الرجل ، ليصب فى رحم الأنثى . وهذا الماء الدافق من صفاته أنه يخرج من بين صلب الرجل ، ومن بين ترائب المرأة ، حيث يختلط الماءان ، ويتكون منهما الإِنسان فى مراحله المختلفة بقدرة الله - تعالى - . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما وجه اتصال قوله { فلينظر } بما قبله ؟ . قلت وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بتوصية الإِنسان بالنظر فى أول أمره . ونشأته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإِعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره فى عاقبته . " مم خلق " استفهام جوابه { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } ، والدفق صَبٌّ فيه دفع . ومعنى " دافق " النسبة إلى الدفق الذى هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر . أو الإِسناد المجازى ، والدفق فى الحقيقة لصاحبه . ولم يقل ماءين لامتزاجهما فى الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ فى خلقه … وقال بعض العلماء قوله { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } أى من ماء ذى دفق … وكل من منى الرجل . ومنى المرأة ، اللذين يتخلق منهما الجنين ، ذو دفق فى الرحم . { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } أى يخرج هذا الماء الدافق ، من بين صلب كل واحد منهما ، وترائب كل منهما . أى أن أعضاء وقوى كل منهما ، تتعاون فى تكوين ما هو مبدأ لتوالد الإِنسان ماء الرجل وهو المنى ، ومادة المرأة وهى البويضة المصحوبة بالسائل ، المنصبان بدفع وسيلان سريع إلى الرحم عند الاتصال الجنسى . ويسمى الفقهاء هذه المادة منيا وماء … وقال فضيلة الشيخ ابن عاشور وأطنب - سبحانه - فى وصف هذا الماء الدافق ، لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ، ليستيقظ الجاهل الكافر ، ويزداد المؤمن علما ويقينا . ووصف بأنه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } ، لأن الناس لا يتفطنون لذلك … وهذا من الإِعجاز العلمى فى القرآن ، الذى لم يكن علم به للذين نزل بينهم ، وهو إشارة مجملة ، وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة فقال " تغتسل إذا أبصرت الماء . فقيل له أترى المرأة ذلك ؟ فقال وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك ، إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل ، أشبه الولد أخواله ، وإذا علا ماءُ الرجل ماءها ، أشبه أعمامه " . وقال صاحب الظلال ولقد كان هذا سرا مكنونا فى علم الله لا يعلمه البشر ، حتى كان نصف القرن الأخير ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه فى عظام الظهر الفقارية ، يتكون ماء الرجل . وفى عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث يلتقيان فى قرار مكين . فينشأ منهما الإِنسان … وقوله - سبحانه - { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ . فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِر } . بيان لكمال قدرته - تعالى - وأنه كما أنشأ الإِنسان من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد موته . والضمير فى قوله { إنه } يعود إلى الله - عز وجل - لأن الخالق للإِنسان من ماء دافق هو الله - تعالى - . والضمير فى قوله " رجعه " يعود إلى الإِنسان المخلوق . وقوله { تبلى } من البلاء بمعنى الاختبار والامتحان . ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } والمراد بقوله { تبلى } هنا الكشف والظهور . و { السرائر } جمع سريرة ، وهى ما أسره الإِنسان من أقوال وأفعال ، والظرف " يوم " متعلق بقوله { رجعه } . أى إن الله - تعالى - الذى قدر على خلق الإِنسان من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب … لقادر - أيضا - على إعادة خلق هذا الإِنسان بعد موته ، وعلى بعثه من قبره للحساب والجزاء ، يوم القيامة ، يوم تكشف المكنونات ، وتبدو ظاهرة للعيان ، وترفع الحجب عما كان يخفيه الإِنسان فى دنياه من عقائد ونيات وغيرهما . وفى هذا اليوم لا يكون للإِنسان من قوة تحميه من الحساب والجزاء ، ولا يكون له من ناصر ينصره من بأس الله - تعالى - أو من مدافع يدافع عنه . ثم أقسم - سبحانه - مرة أخرى بالسماء على أن القرآن من عنده - تعالى - فقال { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ . وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ . إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ . وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } . والرجع المطر . وسمى بذلك لأنه يجئ ويرجع ويتكرر ، وقيل الرجع هنا الشمس والقمر والنجوم ، يرجعن فى السماء حيث تطلع من ناحية ، وتغيب فى الأخرى . وقيل المراد بالرجع الملائكة ، لأنهم يرجعون إليها حاملين أعمال العباد . والصدع الشق والانفطار ، يقال تصدع الشئ ، إذا تشقق … والمراد به هنا ما تتشقق عنه الأرض من نبات . كما قال - تعالى - { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً . ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً . فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً . وَعِنَباً وَقَضْباً } أى وحق السماء صاحبة المطر الذى ينزل من جهتها مرة فأخرى ، لنفع العباد والحيوان والنبات … وحق الأرض ذات النبات البازغ من شقوقها . { إنه } أى هذا القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أى لقول فاصل بين الحق والباطل ، والهدى والضلال . والغى والرشاد … وقد بلغ النهاية فى ذلك حتى لكأنه نفس الفصل . { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } أى وأن هذا القرآن ، ليس فيه شائبة من شوائب الهزل أو اللعب أو المزاح . بل هو جد كله ، فيجب على كل عاقل ، أن يتبع هداه ، وأن يستجيب لأمره ونهيه . وفى هذه الآيات الكريمة رد بليغ ، على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين وصفوا القرآن ، بأنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ليهزل به ، لأنه يخبرهم بأن الأموات سيعادون إلى الحياة مرة أخرى ، وذلك أمر تستبعده نفوسهم المطموسة . وفى قوله - تعالى - { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ . وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } مقابلة لطيفة ، حيث وصف - سبحانه - السماء والأرض بما ينسابهما ، وبما يشير إلى أن البعث حق ، لأنه كما ينزل المطر من السماء فيحيى الأرض بعد موتها . كذلك يحيى الله - تعالى - بقدرته الأجساد بعد موتها ، وعاد الضمير فى قوله { إنه } إلى القرآن - مع أنه لم يسبق له ذكر - لأنه معلوم من المقام . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وبتبشيره بحسن العاقبة فقال - تعالى - { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً . وَأَكِيدُ كَيْداً . فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } وقوله { رُوَيْداً } تصغير " رُودِ " بزنة عود - من قولهم فلان يمشى على رود ، أى على مهل ، وأصله من رادت الريح ترود ، إذا تحركت حركة ضعيفة . والكيد العمل على إلحاق الضرر بالغير بطريقة خفية ، فهو نوع من المكر . والمراد به بالنسبة لهؤلاء المشركين تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء به من عند ربه ، فكيدهم مستعمل فى حقيقته . والمراد به بالنسبة لله - تعالى - إمهالهم واستدراجهم ، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فى الوقت الذى يختاره ويشاؤه . أى إن هؤلاء المشركين يحيكون المكايد لإِبطال أمرك - أيها الرسول الكريم - ، وإنى أقابل كيدهم ومكرهم بما يناسبه من استدراج من حيث لا يعلمون ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فتمهل - أيها الرسول الكريم - مع هؤلاء المشركين ، ولا تستعجل عقابهم . وانتظر تدبيرى فيهم ، وأمهلهم وأنظرهم " رويدا " أى إمهالا قريبا أو قليلا ، فإن كل آت قريب ، وقد حقق - سبحانه - لنبيه وعده بأن جعل العاقبة له ولأتباعه . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .