Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 1-19)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت السورة الكريمة ، بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالمداومة على تنزيه الله - تعالى - عن كل نقص ، ويدخل فى هذا الأمر ، كل من يصلح للخطاب . والاسم المراد به الجنس ، فيشمل جميع أسمائه - تعالى - . أى نزه - أيها الرسول الكريم - أسماء ربك الأعلى عن كل ما لا يليق بها ، فلا تطلقها على غيره - تعالى - إذا كان خاصة به ، كلفظ الجلالة ، وكلفظ الرحمن ، ولا تذكرها فى موضع لا يتناسب مع جلالها وعظمتها ، ولا تحرفها عن المعانى التى وضعت لها كما يفعل الزائغون . فقد قال - تعالى - { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ونزه ربك الأعلى ، عن الشريك ، وعن الوالد ، وعن الولد ، وعن الشبيه … وعن كل ما لا يليق به . قال الجمل أى نزه ربك عن كل ما لا يليق به ، فى ذاته ، وصفاته ، وأسمائه ، وأفعاله ، وأحكامه . أما فى ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض . وأما فى صفاته فأن تعتقد أنها لسيت محدثة ولا متناهية ولا ناقصة . وأما فى أفعاله فأن تعتقد أنه - سبحانه - مطلق لا اعتراض لأحد عليه فى أمر من الأمور . وأما فى أسمائه فأن لا تذكره - سبحانه - إلا بالأسماء التى لا توهم نقصا بوجه من الوجوه … وأما فى أحكامه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود عليه ، بل لمحض المالكية … أخرج الإِمام أحمد " عن عامر بن عقبة الجهنى قال لما نزلت { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها فى ركوعكم " فلما نزلت { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } قال " اجعلوها فى سجودكم " . ثم وصف - سبحانه - ذاته بعد وصفه بالأعلى بصفات كريمة أخرى فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } . والخلق هو الإِيجاد للشىء على غير مثال سابق ، والتسوية هى جعل المخلوقات على الحالة والهيئة التى تناسبها ، وتتلاءم مع طبيعتها . أى الذى خلق الخلائق كلها ، وجعلها متساوية فى الأحكام والإِتقان حسبما اقتضته حكمته . ومنح كل مخلوق ما يناسب طبيعته ووظيفته . قال صاحب الكشاف قوله { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } أى خلق كل شئ فسوى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم … { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } والتقدير وضع الأشياء فى مواضعها الصحيحة ، بمقدار معين ، وبكيفية معينة … تقتضيها الحكمة ، ويقرها العقل السليم . وقوله { فَهَدَىٰ } من الهداية . بمعنى الإِرشاد والدلالة على طريق الخير والبر . أى وهو - سبحانه - الذى جعل الأشياء على مقادير مخصوصة فى أجناسها ، وفى أنواعها ، وفى أفرادها . وفى صفاتها وأفعالها … وهدى كل مخلوق إلى ما ينبغى له طبعا واختيارا ، ووجهه إلى الوظيفة التى خلقه من أجلها ، بأن أوجد فيه العقل والميول والإِلهامات والغرائز والدوافع التى تعينه على أداء تلك الوظيفة . وحذف - سبحانه - المفعول فى قوله { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ . وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } للعموم ، لأن هذه الأفعال تشمل جميع مخلوقاته - عز وجل - . قال الآلوسى { وَٱلَّذِي قَدَّرَ … } أى جعل الأشياء على مقادير مخصوصة … { فَهَدَىٰ } أى فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه ، وينبغى له … فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات ، لرأيت فى كل منها ما تحار فيه العقول ، وتضيق عنه دفاتر النقول . وأما فنون هداياته - سبحانه - للإِنسان على الخصوص ، ففوق ذلك بمراحل … وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ، ولا يعلمها إلا اللطيف الخبير . @ أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر @@ وقد فصل بعض العلماء الحديث عن مظاهر تقديره وهدايته - سبحانه - فقال قوله - تعالى - { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ . وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } أى الذى خلق كل شئ فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذى يناسبه ، والذى قدر لكل مخلوق وظيفته وطريقته وغايته ، فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ، وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه . وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة فى كل شئ فى هذا الوجود ، ويشهد بها كل شئ فى رحاب هذا الكون ، من الكبير إلى الصغير . فالطيور لها غريزة العودة إلى الوطن … دون أن تضل عنه مهما بعد ، والنحلة تهتدى إلى خليتها ، مهما طمست الريح فى هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى … وسمك " السلمون " الصغير ، يمضى سنوات فى البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به … وقوله - سبحانه - { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ . فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - ، التى لا يعجزها شئ . والمرعى النبات الذى ترعاه الحيوانات ، وهو اسم مكان للأرض الذى يوجد فيها النبات . والغثاء هو اليابس الجاف من النبات الذى ترعاه المواشى . والأحوى أى المائل إلى السواد ، مأخوذ من الحُوَّة - بضم الحاء مع تشديد الواو المفتوحة - وهى لون يكون بين السواد والخضرة أو الحمرة . ووصف الغثاء بأنه أحوى ، لأنه إذا طال عليه الزمن ، وأصابته المياه ، اسود وتعفن فصار أحوى . أى وهو - سبحانه - وحده ، الذى أنبت النبات الذى ترعاه الدواب ، حالة كون هذا النبات أخضر رطبا . ثم يحوله بقدرته - تعالى - بعد حين إلى نبات يابس جاف . وهذا من أكبر الأدلة المشاهدة ، على أنه - تعالى - يتصرف فى خلقه كما يشاء ، فهو القادر على تحويل الزرع الأخضر إلى زرع يابس جاف ، كما أنه قادر على إحياء الإِنسان بعد موته . فالمقصود من هذه الآيات الكريمة ، الإِرشاد إلى كمال قدرته ، وتنوع نعمه - سبحانه - ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وحتى يعود الكافرون إلى رشدهم بعد هذا البيان الواضح الحكيم . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ . إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } . والنسيان زوال ما كان موجودا فى حافظة الإِنسان . والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل . ومفعول المشيئة محذوف . جريا على غالب استعماله فى كلام العرب … أى سنقرئك - أيها الرسول الكريم - القرآن على لسان أمين وحينا جبريل - عليه السلام - . وسنجعلك حافظا وواعيا لما سيقرؤه جبريل عليك ، بحيث لا تنساه فى وقت من الأوقات ، أو فى حال من الأحوال ، إلا فى الوقت أو فى الحال الذى يشاء الله - تعالى - أن ينسيك شيئا من ذلك . فإنك ستنساه بأمره - تعالى - لأنه وحده - عز وجل - وهو العليم بما كان ظاهرا من الأشياء ، وبما كان خافيا منها . فالمقصود من هاتين الآيتين وعد الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أنه - سبحانه - كما أنه قادر على أن يقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة لا ينساها ، فهو أيضا قادر على أن يزيل من صدره ما يشاء إزالته ، عن طريق النسيان لما حفظه . فالمراد بهذا الاستثناء بيان أنه - تعالى - لو أراد أن يصير الرسول صلى الله عليه وسلم ناسيا للقرآن لقدر على ذلك ، كما قال - سبحانه - { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ … } إذ هو - تعالى - على كل شئ قدير ، ولكنه لم يشأ ذلك فضلا منه وكرما . قال الإِمام الشوكانى ما ملخصه قوله { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } أى سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة . فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى الله عليه وسلم الخاصة ، بعد بيان الهداية العامة ، وهى هدايته صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن . وقوله { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أى لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، وهو لم يشأ - سبحانه - أن ينسى النبى صلى الله عليه وسلم شيئا كقوله - تعالى - { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقيل " لا " فى قوله { فَلاَ تَنسَىٰ } للنهى ، والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما فى قوله - تعالى - { فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } يعنى فلا تغفل عن قراءته . وقال الإِمام الرازى وهاتان الآيتان تدلان على المعجزة من وجهين أحدهما أن رسول صلى الله عليه وسلم كان أميا ، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتبة ، خارق للعبادة فيكون معجزا . وثانيهما أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة . فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة . سيقع فى المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا … وقوله - سبحانه - { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } معطوف على قوله { سَنُقْرِئُكَ } وجملة { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } معترضة . والتيسير بمعنى التسهيل والتخفيف ، وهو جعل العمل يسيرا على عامله بأن يهيئ الله - تعالى - للعامل الأسباب التى تهون له العسير ، وتقرب له البعيد . واليسرى مؤنث الأيسر ، بمعنى الأسهل ، والموصوف محذوف . والمعنى سنجعلك - أيها الرسول الكريم - صاحب ذاكرة قوية تحفظ القرآن ولا تنساه . وسنوفقك توفيقا دائما للطريقة اليسرى فى كل باب من أبواب الدين علما وعملا ، واهتداء وهداية - وسنرزقك الأمور الحسنة التى تجعلك تعيش سعيدا فى دنياك ، وظافرا برضواننا فى أخراك . ولقد أنجز الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وعده ، حيث أعطاه شريعة سمحة ، ومنحه أخلاقا كريمة ، من مظاهرها أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ، ودعا أتباعه إلى الأخذ بمبدأ التيسير ، فقال " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا … " . فهاتان بشارتان عظيمتان للرسول صلى الله عليه وسلم . أولاهما تتمثل فى إلهامه الذاكرة الواعية الحافظة لما يوحى إليه . وثانيتهما توفيقه صلى الله عليه وسلم إلى الشريعة اليسرى ، وإلى الأخلاق الكريمة وإلى الأخذ بما هو أرفق وأيسر فى كل أحواله . ثم أمره - تعالى - بدوام التذكير بدعوة الحق بدون إبطاء أو يأس فقال { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ . وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى . ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ . ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } . والفاء فى قوله { فذكر } للتفريع على ما تقدم ، والأمر مستعمل هنا فى طلب المداومة على التذكير بدعوة الحق التى أرسله - سبحانه - بها ، والذكرى بمعنى التذكير . والمعنى إذا كان الأمر كما أخبرناك - أيها الرسول الكريم - فداوم على تذكير الناس بالهدى ودين الحق ، واتبع فى ذلك الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن واهتم فى تذكيرك بمن تتوقع منهم قبول دعوتك ، وأعرض عن الجاحدين والمعاندين والجاهلين . قال صاحب الكشاف فإن قلت كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع … فما معنى اشتراط النفع ؟ … قلت هو على وجهين أحدهما . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده فى تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوا وطغيانا ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ، ويزداد جدا فى تذكيرهم ، وحرصا عليه ، فقيل له { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير . والثانى أن يكون ظاهره شرطا ، ومعناه ذَمّاً للمذكِّرين - بتشديد الكاف المفتوحة - وإخبارا عن حالهم ، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم ، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ عظ المكاسين إن سمعوا منك ، قاصدا بهذا الشرط ، استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون . . وقال الإِمام الرازى ما ملخصه جاء التعليق بالشرط فى قوله - تعالى - { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } مع أنه صلى الله عليه وسلم مطلوب منه أن يذكر الناس جميعا ، نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم - للتنبيه على أشرف الحالين ، وهو وجود النفع الذى من أجله شرعت الذكرى ، كقوله - تعالى - { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } وللإِشعار بأن المراد من الشرط البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول الإِنسان لغيره بعد أن بين له الحق ، قد أوضحت لك الأمر إن كنت تعقل ، فيكون مراده الحض على القبول … ويبدو لنا أن المقصود بالآية الكريمة ، تحريض النبى صلى الله عليه وسلم على المداومة على دعوة الناس إلى قبول الحق الذى جاء به ، فإن هذا التذكير إن لم ينفع الناس جميعا ، فسينفع بعضهم ، فقد اقتضت سنة الله - تعالى - أن لا تخلو الأرض ممن يستمع إلى الحق ، ويستجيب له . ويدل على هذا المعنى قوله - تعالى - بعد ذلك { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } أى سينتفع بتذكيرك - أيها الرسول الكريم - من يخشى الله - تعالى - ويخاف عذابه ، ويرجو ثوابه . { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى } أى ويتجنب الذكرى ، ويبتعد عن الموعظة ، ويتجافى عن النصيحة ، الإِنسان الشديد الشقاوة والتعاسة ، الذى أبى إلا الإِصرار على كفره وعناده ، وخلا من خشية الله - تعالى - . والمراد بالأشقى الجنس ، أى يبتعد عن الانتفاع بالتذكير جميع الأشقياء وهم الكافرون . وقيل المراد به الكافر المتوغل فى كفره كأبى جهل والوليد بن المغيرة وأشباههما . وقوله { ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } صفة للأشقى . أى سيبتعد عن الانتفاع بتذكيرك - أيها الرسول الكريم - الكافر المصر على كفره ، الذى من صفاته أنه سيصلى وسيلقى فى أشد طبقات النار سعيرا وحريقا ، وهى الطبقة السفلى منها . فوصف النار بالكبرى ، من قبيل التهويل والإِنذار للمصرين على كفرهم { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أى ثم إن هذا الشقى بعد أن يلقى به فى النار الكبرى ، { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح من العذاب { وَلاَ يَحْيَا } حياة طيبة فيها شئ من الراحة ، بل يبقى هكذا { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } وبعد هذا البيان الذى يهز القلوب … عن سوء عاقبة الأشقياء ، ساق - سبحانه - ما يدخل البهجة والسرور على النفوس ، عن طريق بيان حسن عاقبة السعداء ، فقال { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ . وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } . أى قد أفلح وفاز وانتفع بالتذكير ، من حاول تزكية نفسه وتطهيرها من كل سوء . ومن ذكر اسم ربه بقلبه ولسانه ، فصلى الصلوات الخمس التى فرضها الله - تعالى - عليه . وأضاف إليها ما استطاع من نوافل وسنن . وعبر - سبحانه - بقوله { قَدْ أَفْلَحَ } ليجمع فى هذا التعبير البليغ ، كل معانى الخير والنفع ، لأن الفلاح معناه وصول المرء إلى ما يطمح إليه من فوز ونفع . وجاء التعبير بالماضى المسبوق بقد ، للدلالة على تحقيق هذا الفلاح بفضل الله - تعالى - ورحمته . وقد اشتملت هاتان الآيتان على الطهارة من العقائد الباطلة { تزكى } وعلى استحضار معرفة الله - تعالى - { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ } وعلى أداء التكاليف الشرعية التى على رأسها الصلاة { فصلى } . وهذه المعانى هى التى وصلت صاحبها إلى الفلاح الذى ليس بعده فلاح . وقوله - تعالى - { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا . وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } الإِضراب فيه عن كلام مقدر يفهم من السياق . والمعنى لقد بينت لكم ما يؤدى إلى فلاحكم وفوزكم … ولكنكم - يا بنى آدم - كثير منكم لم يستجب لما بينته له ، بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا ، بأن تقدموا زينتها وشهواتها ومتعها … على ما ينفعكم فى آخرتكم ، والحال أن ما فى الدار الآخرة من نعيم ، خير وأبقى من حطام الدنيا ، لأن الدنيا ومتعها زائلة ، أما الآخرة فخيرها باق لا يزول . والخطاب لجميع الناس ، ويدخل فيه الكافرون دخولا أوليا ، وعليه يكون المراد بإيثار الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين ، ما لا يخلو منه غالب الناس ، من اشتغالهم فى كثير من الأحيان بمنافع الدنيا ، وتقصيرهم فيما يتعلق بآخرتهم . ويرى كثير من العلماء أن الخطاب للكافرين على سبيل الالتفات ، ويؤيد أن الخطاب للكافرين قراءة أبى عمرو بالياء على طريقة الغيبة . أى بل إن الكافرين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، مع أن الآخرة خير وأبقى . ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ . صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } أى إن هذا الذى ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على الآخرة ، لكائن وثابت ومذكور فى الصحف الأولى ، التى هى صحف إبراهيم وموسى ، التى أنزلها - سبحانه - على هذين النبيين الكريمين ، ليعلما الناس ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ومواعظ . وفى إبهام هذه الصحف ، ووصفها بالقدم ، ثم بيان أنها لنبيين كريمين من أولى العزم من الرسل ، تنويه بشأنها ، وإعلاء من قدرها . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .