Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 88, Ayat: 1-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } للتحقيق والتقرير ، أو المقصود به التعجيب من حديث القيامة ، والتشويق إلى الاستماع إليه . والغاشية لفظ مشتق من الغشيان ، وهو تغطية الشئ لغيره ، يقال غشيه الأمر ، إذا غطاه ، والمقصود بالغاشية يوم القيامة ، ووصف يوم القيامة بذلك ، لأنه يغشى الناس بأهواله وشدائده ، ويغطى عقولهم عن التفكير فى أى شئ سواه . والمعنى هل بلغك - أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب - حديث يوم القيامة ، الذى يغشى الناس بأحواله المفزعة ، ويعمهم بشدائده … إن كان لم يأتك فهذا خبره ، وتلك هى أقسام الناس فيه . وافتتاح السورة بهذا الافتتاح - بجانب ما فيه من تشويق - يدل على أهمية هذا الخبر ، وأنه من الأخبار التى ينبغى الاستعداد لما اشتملت عليه من معانى لا يصح التغافل عنها . ثم فصل - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم فقال { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } . قال الشوكانى الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل ما هو ؟ أو مستأنفة استئنافًا نحويا ، لبيان ما تضمنته من كون ثَمَّ وجوه فى ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة ، و " وجوه " مرتفع على الابتداء - وإن كانت نكرة - لوقوعه فى مقام التفصيل … والتنوين فى " يومئذ " عوض عن المضاف إليه . أى يوم غشيان الغاشية . والخاشعة الذليلة الخاضعة ، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع … والمراد بالوجوه أصحابها ، من باب التعبير عن الكل بالبعض ، وخصت الوجوه بالذكر ، لأنها أشرف أعضاء الإِنسان ، ولأنها هى التى تظهر عليها الآثار المختلفة من حزن أو فرح . أى وجوه فى يوم قيام الساعة ، تكون خاشعة ذليلة ، تبدو عليها آثار الهوان والانتكاس والخزى ، كما قال - تعالى - { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ … } وهذه الوجوه - أيضا - من صفاتها أنها { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } أى مكلفة بالعمل الشاق المرهق الذى تَنْصَبُ له الوجوه فى هذا اليوم ، وتتعب تعبا ما عليه من مزيد ، كجر السلاسل ، وحمل الأغلال ، والخوض فى النار . فقوله { عاملة } اسم فاعل من العمل ، والمراد به هنا العمل الشاق المهين . وقوله { ناصبة } من النَّصب ، بمعنى التعب والإِعياء يقال نَصِب فلان بكسر الصاد - كفرح - ينصب نصبا ، إذا تعب فى عمله تعبا شديدا . وفى هذه الصفات زيادة توبيخ لأهل النار ، لأنهم لما تركوا فى الدنيا الخشوع لله - تعالى - والعمل الصالح ، وآثروا متع الدنيا على ثواب الآخرة … كان جزاؤهم يوم القيامة ، الإِذلال ، والعمل الشاق المهين الذى لا تعقبه راحة . ثم أخبر - سبحانه - عن هذه الوجوه الشقية بأخبار أخرى فقال { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } أى أن هذه الوجوه تشوى بالنار الحامية يوم القيامة . يقال صَلِىَ فلان النار فهو يصلاها ، إذا لفحته بحرها لفحا شديدا . { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أى هذه الوجوه يسقى أصحابها من عين قد بلغت النهاية فى الحرارة والغليان ، إذ الشئ الآنى ، هو الذى بلغ النهاية فى الحرارة ، يقال أَنَى الماء يَأْنَى - كرمى يرمى - ، إذا بلغ الغاية فى الغليان ، ومنه قوله - تعالى - { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } قال الإِمام ابن جرير قوله { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أى تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أَنَى حرها ، فبلغ غايته فى شدة الحر ، وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل … فعن ابن عباس هى التى قد طال أنيْهُا - أى حرها - . وقال بعضهم عنى بقوله { مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أى من عين حاضرة - أى حاضرة لعذابهم . وقوله - تعالى - { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ . لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } . والضريع هو شجر فى النار يشبه الشوك ، فيه ما فيه من المرارة والحرارة وقبح الرائحة . وقوله { يسمن } من السِّمَن - بكسر السين وفتح الميم - وهو وفرة اللحم والشحم فى الحيوان وغيره . يقال فلان أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن . وقوله { يغنى } من الإِغناء ودفع الحاجة ، يقال أغنانى هذا الشئ عن غيره ، إذا كفاه واستغنى به عن سواه . أى أن أصحاب هذه الوجوه التعيسة بجانب شرابهم من الماء البالغ النهاية فى الحرارة ، لهم - أيضا - طعام من أقبح الطعام وأردئه وأشنعه وأشده مرارة … هذا الطعام لا يأتى بسمن ، ولا يغنى من جوع ، بل إن آكله ليزدرده رغما عنه . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أخبر عن أصحاب هذه الوجوه الشقية بجملة من الأخبار المحزنة المؤلمة ، التى منها ما يتعلق بهيئاتهم ، ومنها ما يتعلق بأحوالهم ، ومنها ما يتعلق بشرابهم ، ومنها ما يتعلق بطعامهم . ووصف - سبحانه - طعامهم بأنه لا يسمن ولا يغنى من جوع ، لزيادة تقبيح هذا الطعام ، وأنه شر محض ، لا مكان لأية فائدة معه . قال صاحب الكشاف الضريع اليابس من نبات الشبرق ، وهو جنس من الشوك ، ترعاه الإِبل ما دام رطبا ، فإذا يبس تحامته الإِبل وهو سم قاتل … فإن قلت كيف قيل { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } وفى الحاقة { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } قلت العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع . والضريع منفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع ، وإفادة القوة والسمن فى البدن . أو أريد أن لا طعام لهم أصلا ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم ، فضلا عن الإِنس ، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن ، وهما منه بمعزل ، كما تقول ليس لفلان ظل إلى الشمس . نريد نفى الظل على التوكيد . . وبعد هذا الحديث المؤثر عن الكافرين وسوء عاقبتهم … جاء الحديث عن المؤمنين ونعيمهم ، فقال - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ . لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } . قال الآلوسى قوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } شروع فى رواية حديث أهل الجنة ، وتقديم حكاية أهل النار ، لأنه أدخل فى تهويل الغاشية ، وتفخيم حديثها ، ولأن حكاية حُسْنِ حال أهل الجنة ، بعد حكاية سوء أهل النار ، مما يزيد المحكى حسنا وبهجة … وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة ، إيذانا بكمال التباين بين مضمونهما … أى وجوه كثيرة تكون يوم القيامة ، ذات بهجة وحسن ، وتكون متنعمة فى الجنة بما أعطاها - سبحانه - من خير عميم ، جزاء عملها الصالح فى الدنيا . { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } أى لعملها الذى عملته فى الدنيا راضية ، لأنها قد وجدت من الثواب عليه فى الآخرة ، أكثر مما كانت تتوقع وترجو . فالمراد بالسعى العمل الذى كان يعمله الإِنسان فى الدنيا ، ويسعى به من أجل الحصول على رضا خالقه ، وهو متعلق بقوله { راضية } . وقدم عليه للاعتناء بشأن هذا السعى . وقوله - تعالى - { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } بيان لسمو مكانتهم . أى هم كائنون فى جنة عالية ، مرتفعة المكان والمكانة ، فقد وصفت الجنة بالعلو ، للمبالغة فى حسنها وفى علو منزلتها ، فقد جرت العادة أن تكون أحسن الجنات ، ما كانت مرتفعة على غيرها . ثم وصف - سبحانه - هذه الجنة بجملة من الصفات الكريمة فقال { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } . أى لا تسمع فى هذه الجنة كلمة ذات لغو . واللغو هو الكلام الساقط الذى لا فائدة فيه . أى إنك - أيها المخاطب - لا تسمع فى الجنة إلا الكلام الذى تسر له نفسك ، وتقرُّ به عينك ، فلفظ اللاغية هنا مصدر بمعنى اللغو ، مثل الكاذبة للكذب ، وهو صفة لموصوف محذوف . { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أى فى هذه الجنة عيون تجرى بالماء بالعذب الزلال المتدفق . قال صاحب الكشاف قوله { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } يريد عيونا فى غاية الكثرة كقوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } فالمراد بالعين عنا جنس العيون ، وبالجارية التى لا ينقطع ماؤها … { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } أى فى الجنة أماكن يجلس عليها أهلها جلوسا مرتفعا عن الأرض . وينامون فوقها نوما هادئا لذيذا … والسرر جمع سرير ، وهو الشئ ذو القوائم المرتفعة الذى يتخذ للجلوس والاضطجاع . ووصف - سبحانه - هذه السرر بالارتفاع ، لزيادة تصوير حسنها . { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } والأكواب جمع كوب . وهو عبارة عن الإِناء الذى تشرب فيه الخمر . أى وفى الجنة أكواب كثيرة قد وضعت بين أيدى أهلها ، بحيث يشربون من الخمر التى وضعت فيها ، دون أن يجدوا أى عناء فى الحصول عليها . { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } والنمارق جمع نمرقة - بضم النون وسكون الميم وضم الراء - ، وهى الوسادة الصغيرة التى يتكئ عليها الجالس والمضجع . أى وفى الجنة وسائد كثيرة ، قد صف بعضها إلى جانب بعض صفا جميلا ، بحيث يجدها الجالس قريبة منه فى كل وقت . { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } والزرابى جمع زربية - بتثليث الزاى - وهى البساط الواسع الفاخر ، أو ما يشبهه من الأشياء الثمينة التى تتخذ للجلوس عليها . والمبثوثة أى المنتشرة على الأرض ، من البث بمعى النشر ، كما فى قوله - تعالى - { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أى وفيها بسط فاخرة جميلة … مبسوطة فى كل مكان ، ومتفرقة فى كل مجلس . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف الجنة التى أعدها - سبحانه - لعباده المتقين بعدد من الصفات الكريمة المتنوعة . وصفها بأنها عالية فى ذاتها ، وبأنها خالية من الكلام الساقط ، وبأن مياهها لا تنقطع ، وبأن أثاثها فى غاية الفخامة ، حيث اجتمع فيها كل ما هو مريح ولذيذ . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا من أهلها . ثم ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة المشاهدة ، التى لا يستطيع أحد إنكارها ، ليلفت أنظار الناس إلى مظاهر قدرته ووحدانيته . فقال - تعالى - { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } . والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والتحريض على التأمل والتفكر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والمراد بالنظر التدبر فى تلك المخلوقات ، فإن من شأن هذا التدبر ، أنه يؤدى إلى الاعتبار والانتفاع … والخطاب لأولئك الكافرين الجاهلين ، الذين أمامهم الشواهد الواضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ومع ذلك لم ينتبهوا لها . والمعنى أيستمر هؤلاء الكافرون فى جهلهم وضلالهم ، وفى إنكارهم لأمر البعث والحساب والجزاء … فلا ينظرون نظر اعتبار وتأمل ، إلى الإِبل - وهى أمام أعينهم - كيف خلقها الله ما - تعالى - بهذه الصورة العجيبة ، وأوجد فيها من الأعضاء المتناسقة ، ومن التكوين الخِلْقِى ، ما يجعلها تؤدى وظيفتها النافعة لبنى آدم ، على أكمل وجه ، فمن لبنها يشربون ، ومن لحمها يأكلون وعلى ظهرها يسافرون ، وأثقالهم عليها يحملون . وخص - سبحانه - الإِبل بالذكر من بين سائر الحيوانات ، لأنها أعز الأموال عند العرب ، وأقربها إلى مألوفهم وحاجتهم ، وأبدعها خلقا وهيئة وتكوينا . قال صاحب الكشاف قوله - تعالى - { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ } نظر اعتبار { كَيْفَ خُلِقَتْ } خلقا عجيبا ، دالا على تقدير مقدر ، شاهدا بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال ، وجرها إلى البلاد الشاحطة ، أى البعيدة ، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها ، لا تعارض ضعيفا ، ولا تمانع صغيرا . فإن قلت كيف حسن ذكر الإِبل ، مع السماء والجبال والأرض ، ولا مناسبة ؟ … قلت قد انتظم هذه الأشياء ، نظر العرب فى أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم . . وقوله - تعالى - { وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ } أى وهلا نظروا إلى السماء نظر اعتبار واتعاظ ، فعرفوا أن الذى خلقها هذا الخلق البديع ، بأن رفعها بدون أعمدة … هو الله - عز وجل - . { وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت } أى كيف وجدت بهذا الوضع الباهر بأن نصبت على وجه الأرض نصبا ثابتا راسخا . يحمى الأرض من الاضطراب والتزلزل . { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } أى كيف سويت وفرشت وبسطت بطريقة تجعل الناس يتمكنون من الانتفاع بخيرها ، ومن الاستقرار عليها ، وهذا لا ينافى كونها كروية ، لأن الكرة إذا اشتد عظمها … كانت القطعة منها كالسطح فى إمكان الانتفاع بها . وبعد هذا التوبيخ لأولئك المشركين الذين عموا وصموا عن الحق ، ولم ينتبهوا لآيات الله - تعالى - الدالة على قدرته ووحدانيته … أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يداوم على التذكير بدعوة الحق ، فقال { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } . والفاء فى قوله { فذكر } للتفريع ، وترتيب ما بعدها على ما قبلها . والأمر مستعمل فى طلب الاستمرار والدوام فى دعوته الناس إلى الحق ، ومفعول " فذكر " محذوف للعلم به . وجملة " إنما أنت مذكر " تعليل للأمر بالمواظبة على تبليغ الناس ما أمره بتبليغه . والمصيطر هو المتسلط ، المتجبر ، الذى يجبر الناس على الانقياد لما يأمرهم به . وقد قرأ الجمهور هذا اللفظ بالصاد ، وقرأ ابن عامر بالسين . أى إذا كان الأمر كما بينا لك - أيها الرسول الكريم - من أحوال الناس يوم الغاشية ، ومن أننا نحن الذين أوجدنا هذا الكون بقدرتنا … فداوم - أيها الرسول الكريم - على دعوة الناس إلى الدين الحق ، فهذه وظيفتك التى لا وظيفة لك سواها ، وكِلْ أمرهم بعد ذلك إلينا ، فأنت لست بمجبر لهم أو مكره إياهم على اتباعك ، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب . وقوله - سبحانه - { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ . فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ } كلام معترض بين قوله { فذكر … } وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } والاستثناء فيه استثناء منقطع ، و " إلا " بمعنى لكن ، و " مَنْ " موصولة مبتدأ … والخبر . " فيعذبه الله العذاب الأكبر " . أى داوم - أيها الرسول الكريم - على التذكير … لكن من تولى وأعرض عن تذكيرك وإرشادك ، وأصر على كفره ، فنحن الذين سنتولى تعذيبهم تعذيبا شديدا . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } . وهاتان الآيتان تعليل لقوله - تعالى - قبل ذلك { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } . والإِياب مأخوذ من الأوب بمعنى الرجوع إلى المكان الذى كان فيه قبل ذلك . والمراد به هنا الرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة للحساب والجزاء . أى داوم - أيها الرسول الكريم - على تذكير الناس بدعوة الحق ، بدون إجبار لهم ، أو تسلط عليهم ، واتركهم بعد ذلك وشأنهم … فإن إلينا وحدنا رجوعهم بعد الموت لا إلى أحد سوانا ، ثم إن علينا وحدنا - أيضا - حسابهم على أعمالهم ، ومجازاتهم عليها بالجزاء الذى نراه مناسبا لهم . وصدر - سبحانه - الآيتين بحرف التأكيد " إن " وعطف الثانية على الأولى بحرف " ثم " المفيد للتراخى فى الرتبة ، وقدم خبر " إن " فى الجملتين على اسمها … لإِفادة التهديد والوعيد ، وتأكيد أن رجوعهم إليه - تعالى - أمر لا شك فيه . وإن حسابهم يوم القيامة سيكون حسابا عسيرا ، لأنه صادر عمن لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء .