Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 36-37)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال صحاب المنار ، هاتان الآيتان عود إلى الكلام فى أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين - فى قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام فى أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التى هى وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذارٍ من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإِنذار موجهاً إلينا وإليهم جميعاً … " والعدة - فى قوله . إن عدة الشهور - على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود . قال الراغب العدة هى الشئ المعدود ، قال - تعالى { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا … والشهور جمع شهر . والمراد بها هنا الشهور التى تتألف منها السنة القمرية وهى شهور . المحرم . وصفر . وربيع الأول … الخ . وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون فى عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم . والمراد بقوله { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } الوقت الذى خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء فى كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } والمعنى إن عدد الشهور { عِندَ ٱللَّهِ } أى فى حكمه وقضائه { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } هى الشهور القمرية التى عليها يدور فلك الأحكام الشرعية . وقوله { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } ، أى فى اللوح المحفوظ . قال القرطبى وأعاده بعد أن قال { عِندَ ٱللَّهِ } لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب فى كتاب الله ، كقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } وقيل معنى { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } أى فيما كتبه - سبحانه - وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والأرض . قال الجمل وقوله . { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } صفة لاثنى عشر ، وقوله { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ، أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا . والمعنى أن هذا أمر ثابت فى نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته - سبحانه - فى اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع … فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها . وقوله { حُرُمٌ } جمع حرام - كسحب جمع سحاب - مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى - أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقد أخرج البخارى عن أبى بكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى خطبة حجة الوداع " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم . ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " . وسماه - صلى الله عليه وسلم - رجب مضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً وكانت قبيلة مضر تحرم رجباً نفسه ، لذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه " ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " . قال ابن كثير . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاث سرد . وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهراً وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب فى وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا . واسم الإِشارة فى قوله { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } يعود إلى ما شرعه الله - تعالى - من أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً ، ومن أن منها أربعة حرم . والقيم القائم الثابت المستقيم الذى لا التواء فيه ولا اعوجاج أى ذلك الذى شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ، الذى لا يقبل التغيير أو التبديل … لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم . والضمير المؤنث فى قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى فلا تظلموا فى الشهور الاثنى عشر أنفسهم ، بأن تفعلوا فيها شيئاً مما نهى الله عن فعله ، ويدخل فى هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا . ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها . وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه وأولى الأقوال فى ذلك عندى بالصواب قول من قال فلا تظلموا فى الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم حرمتها . وعن قتادة إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم … فإن قال قائل فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا فى غيرهن من سائر شهور السنة . قيل ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا فى كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهم على سائر شهور السنة فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله - تعالى - { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ } ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى - زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيداً ، وفى تضييعها تشديداً ، فكذلك فى قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } . وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه . وقال القرطبى لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول للبارى - تعالى - أن يفعل ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما يريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى . وقوله { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه ، وعزيمة صادقة . وكلمة { كَآفَّةً } مصدر فى موضع الحال من ضمير الفاعل فى { قَاتِلُواْ } أو من المفعول وهو لفظ المشركين . ومعناها جميعا . وقالوا وهذه الكلمة من الكلمات التى لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهى ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل عامة وخاصة . أى قاتلوا - أيها المؤمنون - المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جميعا ، بأن تكونوا فى قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين . لا مختلفين ولا متخاذلين . وقوله { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم فى قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به . أى واعلموا - أيها المؤمنون أن الله تعالى - مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد ، ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا - أيها المؤمنين من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه لتنالوا عونه وتأييده . ثم نعى - سبحانه - على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم … فقال تعالى { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ … } والنسئ مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشئ إذا أخره . ومنه نسأت الإِبل عن الحوض إذا أخرتها عنه . ومنه أنسأ الله فى أجل فلان ، أى أخره والمراد به تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر . وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التى جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال " كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمونه مكانه شهر آخر - وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها - حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أى ليوافقو العدة التى هى الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذى هو أحد الواجبين " . والمعنى إنما النسئ الذى يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، { زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } أى زيادة فى كفرهم لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر فى العقيدة والكفر فى التشريع . قال القرطبى وقوله { زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها أنكرت وجود البارى - تعالى - فقالت { وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } فى أصح الوجوه . وأنكرت البعث فقالت { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وأنكرت بعثة الرسل فقالوا { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرمه الله ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون . وقوله { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول . أى يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسئ فى الضلال والموقع لهم فى هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم . وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو { يُضَلُّ } بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل . أى يضل الله الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسئ . ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسئ الذى هو لون من ألوان استحلال محارم الله . وقوله { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } بيان وتفسير لكيفية ضلالهم . والضمير المنصوب فى { يُحِلُّونَهُ … وَيُحَرِّمُونَهُ } يعود إلى النسئ ، أى الشهر المؤخر عن موعده . والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم ، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام ، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم ، وأنهم يحرمونه أى يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر ، إذا كانت مصلحتهم فى ذلك . والمواطأة الموافقة . يقال واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته . والمعنى فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم ، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم ، بحيث تكون أربعة فى العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة فى شريعة الله . قال ابن عباس ما أحل المشركون شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً من الأشهر الحلال . وما حرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام ، لكى يكون عدد الأشهر الحرم أربعة . وقوله { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } تفريع على ما تقدم . أى فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة ، ما حرمه الله فى شرعه . فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله فى عدد الشهور المحرمة ، إلا أنهم خالفوه فى تخصيصها فقد كانوا - مثلا - يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر . وقوله { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } ذم لهم على انتكاس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم . أى زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا . وقوله { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين . أى والله تعالى . اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم ، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى ، وأثروا طريق الغى على طريق الرشاد … فكان أمرهم فرطا . هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى . 1 - أن السنة اثنا عشر شهراً ، وأن شهور السنة القمرية هى المعول عليها فى الأحكام لا شهور السنة الشمسية . قال الفخر الرازى ، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهراً من الشهور القمرية ، والدليل عليه هذه الآية - { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } الآية ، وقوله . تعالى { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر . وأيضاً قوله . تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } ثم قال واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل . عليهما السلام . فأما عند اليهود والنصارى ، فليس الأمر كذلك … وقال الجمل قوله { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } هذه شهور السنة القمرية التى هى مبنية على سير القمر فى المنازل ، وهى شهور العرب التى يعتد بها المسلمون فى صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم . وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً . والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس فى الفلك دورة تامة ، وهى ثلثمائة وخمسة وستون يوماً . وربع يوم . فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة فى الشتاء وتارة فى الصيف . هذا ، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية ، وعن سبسب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت . 2 - وجوب التقييد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها . قال القرطبى ما ملخصه وضع - سبحانه - هذه الشهور وسماها بأسمائها على مارتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه فى كتبه المنزلة ، وهو معنى قوله { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } . وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم فى الاسم منها . والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فى خطبته فى حدة الوداع " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " . ثم قال القرطبى كانوا يحرمون شهراً فشهراً حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإِسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذى وضعه الله فيه . فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " . 3 - أخذ بعضهم من قوله تعالى - { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن تحريم القتال فى الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعاً . قال ابن جريج حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا فى الحرم ولا فى الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها . وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال فى الأشهر الحرم قد نسخ ، بدليل أن الله - تعالى - بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد يزمن فقال { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فدل ذلك على أن القتال فى الأشهر الحرم مباح . وبدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف فى شهر حرام وهو شهر ذى القعدة . قال ابن كثير ثبت فى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى هوزان فى شوال ، فلما كسرهم … لجأوا إلى الطائف ، فعمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً ، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر فى الشهر الحرام - أى . فى شهر ذى القعدة . ثم قال ما ملخصه وأما قوله - تعالى { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف . ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم … ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم فى الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم - أى من الأعداء كما قال - تعالى - { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } وكما قال - تعالى - { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } وهكذا الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها ، فإنهم الذين بدأوا القتال للمسلمين . . فعند ذلك قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة منهم … واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه فى شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر فى الدوام مالا يغتفر فى الابتداء ، وهذا أمر مقرر . ومن كلام ابن كثير . رحمه الله - نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهى عنه هو ابتداء القتال فى الأشهر الحرم ، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الاعداء ذلك وهو قريب من قول القائل لا يحل القتال فيها ولا فى الحرم إلا إن يكون دفاعاً . وهذا القول هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه لم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأ أعداءه القتال فى الأشهر الحرم ، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدأوا قتال المسلمين فيها ، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم 4 - ذكر المفسرون روايات فى أول من أخر حرمة شهر إلى آخر ، فعن مجاهد قال كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول أيها الناس . إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول . إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجئ العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا رجل من بنى كنانة يقال له " القلمس " وكان فى الجاهلية . وكانوا فى الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض فى الشهر الحرام . يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده . فلما كان هو قال لقومه أخرجوا بنا - أى للقتال - فقالوا له هذا المحرم . قال ننسئه العام ، هى العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا … جعلنا هما محرمين . قال ففعل ذلك . فلما كان عام قابل قال لا تغزوا فى صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان " . وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسئ ، ومن ذلك قول شاعرهم @ ومنا ناسئ الشهر القلمس @@ قال آخر @ ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما @@ وقد أبطل الإِسلام كل ذلك ، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها - سبحانه - عليه يوم خلق السماوات والأرض . وبعد فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا ، نراها - فى مجموعها كما سبق أن بينا - قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، كما نراها قد أبرزت الأسباب التى دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر ، يقنع العقول ، ويشبع العواطف . ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة … وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة ، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين ، والتحذير منهم . وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد ، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .