Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 81-83)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله " المخلفون " اسم مفعول مأخوذ من قولهم خلف فلان فلانا وراءه إذا تركه خلفه . والمراد بهم أولئك المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك بسبب ضعف إيمانهم ، وسقوط همتهم ، وسوء نيتهم … قال الجمل وقوله { خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر مدلول عليه بقوله " مقعدهم " لأنه فى معنى تخلفوا أى تخلفوا خلاف رسول الله . الثانى أن خلاف مفعول لأجله والعامل فيه إما فرح إما مقعد . أى فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه . أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبرى والزجاج ، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ " خلف رسول الله " - بضم الخاء واللام ، الثالث أن ينتصب على الظرف . أى بعد رسول الله ، يقال أقام زيد خلاف القوم ، أى تخلف بعد ذهابهم ، وخلاف يكون ظرفا ، وإليه ذهب أبو عبيدة وغيره ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، وأبى حيوه ، وعمرو بن ميمون ، " خلف رسول الله " - بفتح الخاء وسكون اللام . والمعنى فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين ، بسبب قعودهم فى المدينة ، وعدم خروجهم إلى تبوك للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله . وإنما فرحوا بهذا القعود ، وكرهوا الجهاد لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإِيمان بالله واليوم الآخر ، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور ، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على الآخرة ونعيمها الباقى . وفى التعبير بقوله { ٱلْمُخَلَّفُونَ } تحقير لهم ، وإهمال لشأنهم ، حتى لكأنهم شئ من سقط المتاع الذى يخلف ويترك ويهمل لأنه لا قيمة له ، أو لأن ضرره أكبر من نفعه . قال الآلوسى وإيثار ما فى النظم الكريم على أن يقال ، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن الجهاد فى سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب التى ينبغى أن يتنافس فيها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وفى الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه " . وقوله { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } حكاية لأقوالهم التى تدل على ضعفهم وجبنهم ، وعلى أنهم قوم لا يصلحون للأعمال التى يصلح لها الرجال . أى . وقال هؤلاء المنافقون المخلفون لغيرهم ، اقعدوا معنا فى المدينة ، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين ، فإن الحر شديد ، والسفر طويل ، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب ، ويحمل غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم ، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين عن الجهاد فى سبيل الله . وقوله { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } رد على أقوالهم القبيحة ، وأفعالهم الخبيثة ، أى ، قل يا محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم ، والتحقير من شأنهم نار جهنم أشد حرا من هذا الحر الذى تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هى أشد حرا من نار الدنيا … روى الإِمام مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال " نار بنى آدم التى توقدونها . جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " . ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال وقوله { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } استجهال لهم ، لأن من تصون مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون فى مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل ، ولبعضهم @ مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب @@ أى أن حزن يوم واحد يجعل المسرات الطويلة قبله تتحول إلى ما يشبه الصاب مرارة ، فكيف يكون الحال إذا كانت المسرات ساعة واحدة تعقبها أحقاب طويلة من المساءات ؟ ! ! . وقوله { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } تذييل قصد به الزيادة فى توبيخهم وتحقيرهم . أى لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا ويعتبرون بذلك ، لما فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، ولما كرهوا الجهاد ، ولما قالوا ما قالوا ، بل لحزنوا واكتأبوا على ما صدر منهم ، ولبادروا بالتوبة والاستغفار ، كما فعل أصحاب القلوب والنفوس النقية من النفاق والشقاق . وقوله { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً … } وعيد لهم بسوء مصيرهم ، وإخبار عن عاجل أمرهم وآجله ، من الضحك القليل فى الدنيا والبكاء الكثير فى الآخرة . والمعنى إنهم وإن فرحوا وضحكوا طوال أعمارهم فى الدنيا ، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم فى الآخرة ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والمنقطع الفانى قليل بالنسبة إلى الدائم الباقى . قال صاحب المنار وفى معنى الآية قوله - صلى الله عليه وسلم " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " متفق عليه ، بل رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث أنس ، ورواه الحاكم من حديث أبى هريرة بلفظ " لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا " . ثم قال وإنما كان الأمر فى الآية بمعنى الخبر ، لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف وقد قيل فى فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإِنشاء ، إنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته فى احتمالها ، لأن الأصل فى الأمر أن يكون للإِيجاب وهو حتم … وقوله { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } تذييل قصد به بيان عدالته ، سبحانه ، فى معاملة عباده . أى أننا ما ظلمناهم بتوعدنا لهم بالضحك القليل وبالبكاء الكثير ، وإنما هذا الوعيد جزاء لهم على ما اكتسبوه من فنون المعاصى ، وما اجترحوه من محاربة دائمة لدعوة الحق . وقوله { جَزَآءً } مفعول للفعل الثانى . أى ليبكوا جزاء ، ويجوز أن يكون مصدرا حذف ناصبه . أى يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء . وجمع - سبحانه - فى قوله { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بين صيغتى الماضى والمستقبل ، للدلالة على الاستمرار التجددى ما داموا فى الدنيا . ثم بين - سبحانه - ما يجب على الرسول نحو هؤلاء المخلفين الكارهين للجهاد ، فقال { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً … } . قوله { رَّجَعَكَ } من الرجع بمعنى تصيير الشئ إلى المكان الذى كان فيه أولا . والفعل رجع أحياناً يستعمل لازما كقوله - تعالى - { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً … } وفى هذه الحالة يكون مصدر الرجوع ، وأحيانا يستعمل متعديا كالآية التى معنا ، وكقوله - تعالى - { فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ … } وفى هذه الحالة يكون مصدره الرجع لا الرجوع . قال الآلوسى و " رجع " هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع ، وقد يكون لازما ومصدره الرجوع ، وأوثر هنا استعمال المتعدى رجوع منه إلى تأييد إلهى ، ولذا أوثرت كلمة " إن " على " إذا " . والمعنى فإن ردك الله - تعالى - من سفرك هذا - أيها الرسول الكريم - إلى طائفة من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى تبوك " فاستأذنوك للخروج " معك فى غزوة أخرى بعد هذه الغزوة " فقل " لهم على سبيل الإِهانة والتحقير { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } ما دمت على قيد الحياة { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } من الأعداء الذين أمرنى الله بقتالهم ، والسبب فى ذلك " إنكم " أيها المنافقون " رضيتم بالقعود " عن الخروج معى وفرحتم به فى " أول مرة " دعيتم فيها إلى الجهاد ، فجزاؤهم وعقابكم أن تقعدوا " مع الخالفين " أى مع الذين تخلفوا عن الغزو لعدم قدرتهم على تكاليفه كالمرضى والنساء والصبيان . أو مع الأشرار الفاسدين الذين يتشابهون معكم فى الجبن والنفاق وسوء الأخلاق . قال الإِمام الرازى ما ملخصه ، ذكروا فى تفسير الخالف وجوها الأول قال أبو عبيدة الخالفون جمع ، واحدهم خالف ، وهو من يخلف الرجل فى قومه ، ومعناه فاقعدوا مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون فى البيت فلا يبرحونه . الثانى أن الخالفين فسر بالمخالفين ، يقال فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم ، وقوم خالفون أى كثيرو الخلاف لغيرهم . الثالث أن الخالف هو الفاسد . قال الأصمعى يقال خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد ، وخلف اللبن إذا فسد . إذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلاشك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها ، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات السيئة … " . " وقال - سبحانه - { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ … } ولم يقل فإن رجعك الله إليهم ، لأن جميع الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك ، لم يكونوا من المنافقين ، بل كان هناك من تخلف بأعذار مقبولة ، كالذين أتوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم معه ، فقال لهم " لا أجد ما أحملكم عليه " فتولوا " وأعينهم تفيض من الدمع حزنا " " . وسيأتى الحديث عنهم بعد قليل . وقوله { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } إخبار فى معنى النهى للمبالغة وجمع - سبحانه - بين الجملتين زيادة فى تبكيتهم ، وفى إهمال شأنهم ، وفى كراهة مصاحبتهم … وذلك ، لأنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوهم إلا خبالا ، ولو قاتلوا معهم ، لكان قتالهم خاليا من الغاية السامية التى من أجلها قاتل المؤمنون وهى إعلاء كلمة الله ، وكل قتال خلا من تلك الغاية كان مآله إلى الهزيمة … هذا ، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على أسوأ صفات المنافقين ، كما اشتملت على أشد ألوان الوعيد لهم فى الدنيا والآخرة { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } . قال الجمل وفى قوله - تعالى - { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ … } الآية دليل على أن الشخص إذا ظهر منه مكر وخداع وبدعة ، يجب الانقطاع عنه ، وترك مصاحبته ، لأنه - سبحانه - منع المنافقين من الخروج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد ، وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات . وبعد أن بين - سبحانه - ما يجب أن يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم فى حياتهم ، أتبع ذلك ببيان ما يجب أن يفعله معهم بعد مماتهم فقال - تعالى - { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ … } .