Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-20)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت السورة الكريمة بالقسم ، تشويقا لما يرد بعده ، وتأكيدا للمقسم عليه . و " لا " فى مثل هذا التركيب ، يرى المحققون أنها مزيدة للتأكيد ، والمعنى أقسم بهذا البلد . أى مكة المكرمة ، وقد جاء القسم بها فى قوله - تعالى - { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } قال الشيخ محمد عبده - رحمه الله - قوله { لاَ أُقْسِمُ … } عبارة من عبارات العرب فى القسم ، يراد بها تأكيد الخبر ، كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم . ويقال إنه يؤتى بها فى القسم إذا أريد تعظيم المقسم به . كأن القائل يقول إنى لا أعظمه بالقسم ، لأنه عظيم فى نفسه ، والمعنى فى كل حال على القسم … وقال بعض العلماء " لا " هذه للنفى ، وهذه عبارة تعود العرب أن يقولوها عندما يكون المقسم عليه ظاهرا أمره ، كأنه - تعالى - يقول أنا لا أقسم بهذه الأشياء ، على إثبات هذا المطلوب الذى أذكره بعد ، لأن إثباته أظهر وأجلى وأقوى من أن يحاول محاول إثباته بالقسم . ويقال معناه أنا لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات المطلوب ، لأنه أعظم وأجل وأكبر من أن يقسم عليه ، بهذه الأمور الهينة الشأن ، والغرض على هذا الوجه ، تعظيم المقسم عليه ، وتفخيم شأنه … والإِشارة بلفظ " هذا " مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر فى أذهان السامعين ، لأن مكة بعضهم كان يعيش فيها . وبعضهم كان يعرفها معرفة لاخفاء معها ، وشبيه بذلك قوله - تعالى - { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة هنا تمييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنويه به . وجملة { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } معترضة بين القسم وجوابه . وقوله - تعالى - { حل } اسم مصدر أحل بمعنى أباح ، فيكون المعنى وأنت - أيها الرسول الكريم - قد استحل كفار مكة إيذاءك ومحاربتك … مع أنهم يحرمون ذلك النسبة لغيرك ، فى هذا البلد الأمين . ويصح أن يكون لفظ " حل " هنا بمعنى الحلال الذى هو ضد الحرام يقال هو حل وحلال ، وحِرْمٌ وحرام … فيكون المعنى وأنت أيها الرسول الكريم - قد أحل الله - تعالى - لك أن تفعل بهؤلاء المشركين ما شئت من القتل أو العفو . وتكون الجملة الكريمة ، بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الله - تعالى - سينصره على مشركى قريش ، ويمكنه من رقابهم … وقد أنجز له - سبحانه - ذلك يوم الفتح الأكبر . قال صاحب الكشاف أقسم الله - تعالى - بالبلد الحرام وما بعده ، على أن الإِنسان خلق مغمورا فى مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } يعنى ومن المكابدة أن مثلك - يا محمد - على عظم حرمتك ، يُسْتَحلُّ بهذا البلد الحرام ، كما يستحل الصيد فى غير الحرم . وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم فى عداوته . أو سلى صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده ، على أن الإِنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عليه فقال { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } . يعنى وأنت حل به فى المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر . فإن قلت أين نظير قوله { وَأَنتَ حِلٌّ } فى معنى الاستقبال ؟ قلت قوله - تعالى - { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ . ويرى بعضهم أن معنى قوله - تعالى - { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } وأنت مقيم بهذا البلد ، ونازل فيه ، وحالّ به ، وكفى فخراً لمكة أن تنزل فيها - أيها الرسول الكريم - فإن الأمكنة الشريفة تزداد شرفا بنزول رسل الله - تعالى - فيها ، فكيف وأنت خاتمهم وإمامهم ؟ . قال بعض العلماء وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين أن معنى { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } وأنت ساكن بهذا البلد ، حال فيه … وهو يقتضى أن تكون هذه الآية موضع الحال من ضمير " أقسم " فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال " حل " بمعنى حالٍّ ، أى مقيم فى مكان ، فإن هذا لم يرد فى كتب اللغة … ولذا لم يذكر هذا المعنى صاحب الكشاف … ويبدو لنا أن هذه الأقوال لا تعارض بينها ، بل يؤيد بعضها بعضا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آذاه أهل مكة ، بينما حرموا إيذاء غيره ، وأن الله - تعالى - قد مكن رسوله صلى الله عليه وسلم منهم . كما حدث فى غزوة الفتح ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقام معهم فى مكة أكثر من خمسين سنة ، وكان يلقب عندهم بالصادق الأمين … وقوله - سبحانه - { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } معطوف على المقسم به الأول وهو قوله - تعالى - { بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } . وداخل فى حيز القسم . والمراد بالوالد آدم - عليه السلام - ، والمراد بما ولد ذريته من بعده . أى أقسم بهذا البلد الذى له ماله من الشرف ، والمكانة السامية بين البلاد … وأقسم بأبيكم آدم ، وبذريته من بعده … أو أقسم بكل والد وبكل مولود . وجئ باسم الموصول " ما " فى قوله { وَمَا وَلَدَ } دون " من " مع أنها أكثر استعمالا فى العاقل الذى هو مراد هنا ، لأن " ما " أشد إبهاما ، وشدة الإِبهام المقصود بها هنا التفخيم والتعظيم . . وشبيه بذلك قوله - تعالى - { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ … } كما أن تنكير لفظ " والد " هنا للتعظيم أيضا . وقيل المراد بالوالد هنا إبراهيم - عليه السلام - وبما ولد الصالحون من ذريته . وقيل المراد بالوالد من يولد له ، وبقوله { وَمَا وَلَدَ } الذى لم يولد له وعليه تكون ما نافية . وقد رجح الإِمام ابن جرير المعنى الأول فقال والصواب من القول من ذلك ، ما قاله الذين قالوا إن الله - تعالى - أقسم بكل والد وولده ، لأن الله - تعالى - عم كل والد وما ولد ، وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل . ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه ، فهو على عمومه … وقوله - تعالى - { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍْ } جواب القسم . والمراد بالإِنسان جنسه ، والكبد الشدة والتعب والمشقة ، من المكابدة للشئ ، بمعنى تحمل المشاق والمتاعب فى فعله . وأصله من كَبِد الرجل - بزنة طرب - فهو أَكْبَد ، إذا أصيبت كبده بالمرض ، ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعب ومشقة تنال الإِنسان . والمعنى لقد خلقنا الإِنسان لهذه الشدائد والآلام ، التى هى من طبيعة هذه الحياة الدنيا ، والتى لا يزال يكابدها وينوء بها ، ويتفاعل معها … حتى تنتهى حياته ، ولا فرق فى ذلك بين غنى أو فقير ، وحاكم أو محكوم وصالح أو طالح … فالكل يجاهد ويكابد ويتعب ، من أجل بلوغ الغاية التى يبتغيها . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَد } أى فى تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يقاسى فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها . وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء . وقيل لقد خلقناه منتصب القامة واقفا ، ولم نجعله منكبا على وجهه . وقيل جعلناه منتصبا رأسه فى بطن أمه ، فإذا أذن له فى الخروج قلب رأسه إلى قدمى أمه … وهذه الأقوال ضعيفة لا يعول عليها ، والصحيح الأول … والحق أن تفسير الكبد بالمشقة والتعب ، هو الذى تطمئن إليه النفس لأنه لا يوجد فى هذه الحياة إِنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته ، وفى كبد وتعب للحصول على آماله ورغباته وغاياته ، ورحم الله القائل @ تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد @@ وقال - سبحانه - { فِي كَبَد } للإِشعار بأنه لشدة مقاساته ومكابدته للمشاق والمتاعب ، وعدم انفكاكه عنها … كالظِرف بداخل المظروف فهو فى محن ومتاعب ، حتى يصير إلى عالم آخر تغاير أحوالهُ أحوالَ هذا العالم . والاستفهام فى قوله - تعالى - بعد ذلك { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ . يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً . أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } للإِنكار والتوبيخ . أى أيظن هذا الإِنسان الذى هو فى تعب ومشقة طول حياته ، أنه قد بلغ من القوة والمنعة … بحيث لا يقدر عليه أحد . إن كان يتوهم ذلك ، فهو فى ضلال مبين ، لأن الله - تعالى - الذى خلقه ، قادر على إهلاكه فى لمح البصر ، وقادر على أن يسلط عليه من يذله ، ويقضى عليه . ويدخل فى هذا التوبيخ دخولا أوليا ، أولئك المشركون الذين اغتروا بقوتهم ، فآذوا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إيذاء شديداً . ثم حكى - سبحانه - جانبا من أقوال هذا النوع الجاحد المغرور من بنى آدم فقال { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } . أى يقول هذا الإِنسان المغرور بقوته ، والمفتون بماله ، المتفاخر بما معه من حطام الدنيا . يقول - على سبيل التباهى والتعالى على غيره - لقد أنفقت مالا كثيرا ، فى عداوة النبى صلى الله عليه وسلم ، وفى إيذاء أتباعه ، وفى غير ذلك من الوجوه التى كان أهل الجاهلية يظنونها خيرا ، وما هى إلا شر محض . وعبر - سبحانه - عن إنفاق هذا الشقى لما له بقوله { يَقُولُ أَهْلَكْتُ … } . للإِشعار ، بأن ما أنفقه من مال هو شئ هالك ، لأنه لم ينفق فى الخير ، وإنما أنفق فى الشر . والمال اللُّبَد هو المال الكثير الذى تلبد والتصق بعضه ببعض لكثرته وهو جمع لُبْدة - بضم اللام وسكون الباء - كغرفة وغرف ، وهى ما تلبد من صوف أو شعر ، أى تجمع والتصق بعضه بعض . وقوله - سبحانه - { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } توبيخ لهذا الغرور إثر توبيخ ، وتجهيل فى أعقاب تجهيل . أى أيظن هذا الجاهل المغرور ، حين أنفق المال الكثير فى المعاصى والسيئات ، أن الله - تعالى - غير مطلع عليه ؟ إن كان يظن ذلك فهو فى نهاية الجهالة وانطماس البصيرة ، لأن الله - تعالى - مطلع عليه ، ولا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ، وسيحاسبه على ذلك حسابا عسيرا . وفى الحديث الشريف لن تزل قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيم أبلاه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر نعمه ، على هذا الإِنسان الجاهل والمغرور . فقال - تعالى - { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } . والاستفهام هنا للتقرير ، لأن الله - تعالى - قد جعل له كل ذلك ، ولكنه لم يشكر الله - تعالى - على هذه النعم ، بل قابلها بالجحود والبطر … أى لقد جعلنا لهذا الإِنسان عينين ، يبصر بهما ، وجعلنا له لسانا ينطق به ، وشفتين - وهما الجلدتان اللتان تستران الفم والأسنان - تساعدانه على النطق الواضح السليم . واقتصر - سبحانه - على العينين ، لأنهما أنفع المشاعر ، ولأن المقصود إنكار ظنه أنه لم يره أحد ، ولأن الإِبصار حاصل بذاتهما . وذكر - سبحانه - اللسان وذكر معه الشفتين . للدلالة على أن النطق السليم ، لا يتأتى إلا بوجودهما معا ، فاللسان لا ينطق نطقا صحيحا بدون الشفتين ، وهما لا ينطقان بدونه . وقوله - تعالى - { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } بيان لنعمة أخرى هى أجل النعم وأعظمها . والنجد الأرض المرتفعة ، وجمعه نجود ، ومنه سميت بلاد نجد بهذا الاسم ، لأنها مرتفعة عن غيرها … والمراد بالنجدين هنا طريق الخير . وطريق الشر ، أى وهدينا هذا الإِنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر ، عن طريق رسلنا الكرام ، وعن طريق ما منحناه من عقل ، يميز به بين الحق والباطل ، ثم وهبناه الاختيار لأحدهما ، كما قال - تعالى - { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } قال بعض العلماء وكأنهما إنما سميا نجدين - أى سبيل الخير والشر لأنهما لما وضحت الدلائل ، وقربت الحجج ، وظهرت البراهين ، جعلا كالطريق المرتفعة العالية ، فى أنها واضحة لذوى الأبصار . أو إنما سميا بذلك ، للإِشارة إلى أن كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها ، وليس سلوك طريق الشر بأهون من سلوك الخير ، بل الغالب أن يكون طريق الشر ، أشق وأصعب ، وأحوج إلى الجهد … وبعد بيان هذه النعم الجليلة التى أنعم الله بها - سبحانه - على الإِنسان ، أتبع - سبحانه - ذلك بحضه على المداومة على فعل الخير ، وعلى إصلاح نفسه ، فقال - تعالى - { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ . وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَة . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } . والفاء فى قوله - سبحانه - { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } للتفريع على ما تقدم ، والمقصود بهذه الآية الحض على فعل الخير بدل الشر . وقوله { اقتحم } من الاقتحام للشئ ، بمعنى دخوله بشدة . يقال اقتحم الجنود أرض العدو ، إذا دخلوها بقوة وسرعة ، وبدون مبالاة بارتكاب المخاطر . والعقبة فى الأصل الطريق الوعر فى الجبل ، والمراد بها هنا مجاهدة النفس ، وقسرها على مخالفة هواها وشهوتها ، وحملها على القول والفعل الذى يرضى الله - تعالى - . والمعنى لقد جعلنا للإِنسان عينين ولسانا وشفتين . وهديناه النجدين . فهلا بعد كل هذه النعم ، فعل ما يرضينا ، بأن جاهد نفسه وهواه ، وبأن قدم ماله فى فك الرقاب ، وإطعام اليتامى والمساكين . قال الجمل وقوله { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أى فهلا اقتحم العقبة ، فلا بمعنى هلا التى للتحضيض . أى الذى أنفق ماله فى عداوة النبى صلى الله عليه وسلم هلا أنفقه فى اقتحام العقبة فيأمن … وقد استعيرت العقبة لمجاهدة النفس ، وحملها على الإِنفاق فى سبيل الخير ، لأن هذه الأعمال شاقة على النفس ، فجعلت كالذى يتكلف سلوك طريق وعر . . ويصح أن تكون " لا " هنا ، على معناها الحقيقى وهو النفى ، فيكون المعنى أن هذا الإِنسان الذى جعلنا له عينين … لم يشكرنا على نعمنا ، فلا هو اقتحم العقبة ، ولا هو فعل شيئا ينجيه من عذابنا . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله قوله { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } يعنى فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب ، وإطعام اليتامى والمساكين … بل غمط النعم ، وكفر بالمنعم … فإن قلت قلما تقع " لا " الداخلة على الماضى ، غير مكررة ، فما لها لم تكرر فى الكلام الأفصح ؟ . قلت هى متكررة فى المعنى ، لأن المعنى { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } … فلا فكَّ رقبة ، ولا أطعم مسكينا . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك … والاستفهام فى قوله - سبحانه - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } لتفخيم شأنها ، والتهويل من أمرها ، والتشويق إلى معرفتها . والكلام على حذف مضاف ، والتقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة ؟ . ثم فسر - سبحانه - ذلك بقوله { فَكُّ رَقَبَةٍ } . والمراد بفك الرقبة إعتاقها وتخليصها من الرق والعبودية . إذ الفك معناه تخليص الشئ من الشئ … وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل عتق الرقاب ، وتحريرها من الرق … ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم " من أعتق رقبة مؤمنة ، أعتق الله بكل إِرْبِ منها - أى عضو منها - إربا منه من النار … " . وقوله صلى الله عليه وسلم " ومن أعتق رقبة مؤمنة فهى فكاكه من النار … " . وقراءة الجمهور { فَكُّ رَقَبَةٍ } برفع " فك " وإضافته إلى " رقبة " . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى " فك " بفتح الكاف على أنه فعل ماض ، ونصب لفظ " رقبة " على أنه مفعول به . وقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن المراد بفك الرقبة أن يخلص الإِنسان نفسه من المعاصى والسيئات ، التى تكون سببا فى دخوله النار . وقوله - سبحانه - { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } بيان لفضيلة ثانية من الفضائل التى تؤدى إلى مجاهدة النفس ، وحملها على طاعة الله - تعالى - . والمسغبة المجاعة ، مصدر ميمى بمعنى السَّغَب ، يقال سغب الرجل - كفرح ونصر - إذا أصابه الجوع . ووصف اليوم بذلك على سبيل المبالغة كما فى قولهم نهاره صائم … وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى " أطعم " بصيغة الفعل الماضى . أى اقتحام العقبة . أى التمكن من حمل النفس على طاعة الله - تعالى - يتمثل فى فك الرقاب . وفى إطعام المحتاجين فى يوم يشتد فيه جوعهم . وقوله - سبحانه - { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة } بيان لفضيلة ثالثة من الفضائل التى تؤدى إلى رضا الله - تعالى - . وقوله { يَتِيماً } منصوب على أنه مفعول به لقوله " إطعام " أو أطعم على القراءة الثانية . واليتيم هو الشخص الذى مات أبوه وهو صغير … والمقربة بمعنى القرابة ، مصدر ميمى ، من قرب فلان من فلان ، إذا كان بينهما نسب قريب … والمتربة الحاجة والافتقار الشديد ، مصدر ميمى من ترب الرجل - كطرب - إذا افتقر ، حتى لكأنه قد لصق بالتراب من شدة الفقر ، وأنه ليس له مأوى سوى التراب . وأما قولهم أترب فلان ، فمعناه استغنى ، حتى لكأن ماله قد صار كالتراب من كثرته . أى اقتحام العقبة من أكبر مظاهره فك الرقاب ، وإطعام الطعام لليتامى الأقارب ، وللمساكين المحتاجين إلى العون والمساعدة . وخص - سبحانه - الإِطعام بكونه فى يوم ذى مجاعة ، لأن إخراج المال فى وقت القحط ، أثقل على النفس ، وأوجب لجزيل الأجر ، كما قال - تعالى - { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وقيد - سبحانه - اليتيم بكونه ذا مقربة ، لأنه فى هذه الحالة يكون له حقان حق القرابة ، وحق اليتم ، ومن كان كذلك فهو أولى بالمساعدة من غيره . وقوله - تعالى - { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ … } . و " ثم " هنا للتراخى الرتبى ، للدلالة على أن ما بعدها أصل لقبول ما قبلها . والمعنى هلا كان هذا الإِنسان ممن فكوا الرقاب ، وأطعموا لليتامى والمساكين … ثم كان - فضلا عن كل ذلك - من الذين آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وممن أوصى بعضهم بعضا بفضيلة الصبر ، وفضيلة التراحم والتعاطف . لقد كان من الواجب عليه … لو كان عاقلا - أن يكون من المؤمنين الصادقين ، ولكنه لتعاسته وشقائه وغروره ، لم يكن كذلك ، لأنه لا هو اقتحم العقبة ، ولا هو آمن … وخص - سبحانه - من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر ، وتواصيهم بالمرحمة ، لأن هاتين الصفتين على رأس الصفات الفاضلة بعد الإِيمان بالله - تعالى - واسم الإِشارة فى قوله { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } يعود على الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة . أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، هم أصحاب الجهة اليمنى التى فيها السعداء الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم ، فالمراد بالميمنة جهة اليمين … ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة الكافرين فقال { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } أى الدلالة على وحدانيتا وقدرتنا { هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } أى هم فى جهة الشمال التى فيها الأشقياء ، أو هم أصحاب الشؤم على أنفسهم بسبب إصرارهم على كفرهم . { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } أى عليهم نار مغلقة بحيث لا يستطيعون الخروج منها ، تقول آصدت الباب وأوصدته ، إذا أحكمت غلقه ، والاسم فيهما ، الإِصاد والوصاد … نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من أصحاب الميمنة . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .