Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 91, Ayat: 1-15)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتح - سبحانه - هذه السورة الكريمة ، بالقسم بكائنات عظيمة النفع ، جليلة القدر ، لها آثارها فى حياة الناس والحيوان والنبات ، ولها دلالتها الواضحة على وحدانيته - تعالى - وكمال قدرته ، وبديع صنعه . فقال - سبحانه - { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } والضحى الوقت الذى ترتفع فيه الشمس بعد إشراقها ، فتكون أكمل ما تكون ضياء وشعاعا . فالمراد بضحاها ضوؤها - كما يرى مجاهد - ، أو النهار كله - كما اختار قتادة وغيره - ، أو حرها - كما قال مقاتل - . وهذه الأقوال لا تنافر بينها ، لأن لفظ الضحى فى الأصل ، يطلق على الوقت الذى تنبسط فيه الشمس ، ويمتد النهار ، تقول ضَحِى فلان يَضْحَى - كرضى يرضى - ، إذا برز للشمس ، وتعرض لحرها ، ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ . وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } وقوله - تعالى - { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } أى تبعها ، تقول فلان تلا فلانا يتلوه ، إذا تبعه ، قال بعض العلماء فأما أن القمر تابع للشمس فيحتمل معنيين أحدهما أنه تال لها فى ارتباط مصالح الناس ، وتعلق منافع هذا العالم بحركته ، وقد دل علم الهيئة على أن بين الشمس والقمر من المناسبة ما ليس بين غيرهما من الكواكب . وثانيهما أن القمر يأخذ نوره ويستمده من نور الشمس . وهذا قول الفراء قديما ، وقد قامت الأدلة عند علماء الهيئة والنجوم ، على أن القمر يستمد ضوءه من الشمس … وقال الشيخ ابن عاشور وفى الآية إشارة إلى أن نور القمر ، مستفاد من نور الشمس ، أى من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر ، وليس نيرا بذاته ، وهذا إعجاز علمى من إعجاز القرآن … وقوله - سبحانه - { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } أى جلى الشمس وأظهرها وكشفها للناظرين . قال الآلوسى وقوله { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } أى جلى النهار الشمس ، أى أظهرها ، فإنها تنجلى وتظهر إذا انبسط النهار ، ومضى منه مدة ، فالإِسناد مجازى كالإِسناد فى نحو صام نهاره . وقيل الضمير المنصوب يعود إلى الأرض ، وقيل إلى الدنيا ، والمراد بها وجه الأرض ، وقيل إلى الظلمة ، وجلاها حينئذ بمعنى أزالها ، وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به . والأول أولى ، لذكر المرجع واتساق الضمائر … وقوله - سبحانه - { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } أى يغشى الليلُ الشمسَ فيغطى ضوءها ، فالضمير فى يغشاها يعود إلى الشمس . وقيل يعود إلى الدنيا ، وقيل إلى الأرض أى يغشى الليل الدنيا والأرض بظلامه . والحق أن فى قوله - تعالى - { جَلاَّهَا } و { يَغْشَاهَا } إشارة واضحة إلى أن الضمير فيهما يعود إلى الشمس ، إذ النهار يجلى الشمس ويكشفها أتم انكشاف ، والليل يزيل ضوءها ويستره ، فنسب - سبحانه - إلى النهار ما يلائمه بالنسبة للشمس ، وكذلك الحال بالنسبة لليل . ثم قال - تعالى - { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } أى وحق السماء وحق من بناها وأنشأها وأوجدها على تلك الصورة البديعة الرائعة . فما هنا اسم موصول بمعنى مَنْ ، والمراد بمن بناها الله - عز وجل - وأوثرت على مَنْ التى تأتى للعاقل كثيرا ، لإِشعارها معنى الوصفية . أى وحق السماء ، وحق القادر العظيم الذى بناها وأوجدها على هذه الهيئة الجميلة الدقيقة . وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف فقال و الوجه أن تكون " ما " موصولة - أى فى هذه الآية وما بعدها - وإنما أوثرت على مَنْ لإِرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل والسماء والقادر العظيم الذى بناها . ومنهم من يرى أن " ما " هنا مصدرية ، فيكون المعنى وحق السماء وبنيانها . وقوله - تعالى - { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } أى وحق الأرض ومن بسطها من كل جانب ، وجعلها مهيأة للاستقرار عليها يقال طحى فلان الشئ ودحاه ، إذا بسطه ووسعه . وقوله - سبحانه - { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أى وحق النفوس ، وحق من أنشأها من العدم فى أحسن تقويم ، وجعلها مستعدة لتلقى ما يكملها ويصلحها . ويبدو أن المراد بالنفس هنا ذات الإِنسان ، من باب إطلاق الحالِّ على المحل ، ويكون المراد بتسويتها استواء خلقة الإِنسان ، وتركيب أعضائه فى أجمل صورة . ومن قال بأن المراد بالنفس هنا القوة المدبرة للإِنسان ، يكون المقصود بتسويتها . منحها القوى الكثيرة المتنوعة ، التى توصلها إلى حسن المعرفة ، والتمييز بين الخير والشر ، والنفع والضر ، والهدى والضلال . قالوا وقوله - تعالى - بعد ذلك { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } يشير إلى أن المراد بالنفس فى قوله - تعالى - { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } القوة المدبرة للإِنسان ، والتى عن طريقها يدرك الأمور إدراكا واضحا ، ويختار منها ما يناسب استعداده . والإِلهام هو التعريف والإِفهام للشئ ، أو التمكين من فعله أو تركه ، والفجور فعل ما يؤدى إلى الخسران والشقاء . والتقوى هى الإِتيان بالأقوال والأفعال التى ترضى الله - تعالى - وتصون الإِنسان من غضبه - عز وجل - . أى فعرف - سبحانه - النفس الإِنسان و ألهمها وأفهمها معنى الفجور والتقوى ، وبين لها حالهما ، ووضح لها ما ينبغى أن تفعله وما ينبغى أن تتركه ، من خير أو شر ، ومن طاعة أو معصية ، بحيث يتميز عندها الرشد من الغى ، والخبيث من الطيب . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } وقوله - عز وجل - { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } وقدم - سبحانه - هنا الفجور على التقوى ، مراعاة لأحوال المخاطبين بهذه السورة ، وهم كفار قريش ، الذين كانت أعمالهم قائمة على الفجور والخسران ، بسبب إعراضهم عما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق وبر . وقوله - سبحانه - { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } يصح أن يكون جوابا للقسم . والفلاح الظفر بالمطلوب . والتزكية التزود من الخير والطاعة ، والحرص على تطهير النفس من كل سوء ، وقوله { دَسَّاهَا } أى نقصها وأخفاها بالمعاصى والآثام . وأصل فعل دسَّى دسَّسَ ، فلما اجتمع ثلاث سينات ، قلبت الثالثة ياء ، يقال دس فلان الشئ إذا أخفاه وكتمه . والمعنى وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها . وحق النفس وحق من سواها ، وجعلها متمكنة من معرفة الخير والشر . لقد أفلح وفاز وظفر بالمطلوب ، ونجا من المكروه ، من طهر نفسه من الذنوب والمعاصى . وقد خاب وخسر نفسه . وأوقعها فى التهلكة ، من نَقَصها وأخفاها وأخملها وحال بينها وبين فعل الخير بسبب ارتكاب الموبقات والشرور . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله - تعالى - { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } جواب القسم . وإليه ذهب الزجاج وغيره . والأصل لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الكلام المقتضى للتخفيف . وفاعل من " زكاها " ضمير " مَنْ " والضمير المنصوب للنفس … ويرى المحققون من العلماء أن جواب القسم محذوف ، للعلم به ، فكأنه - سبحانه - قد قال وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها … ليقعن البعث والحساب والجزاء ، أو لتحاسبن على أعمالكم ، ودليل هذا الجواب قوله - تعالى - بعد ذلك { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } لأن هذه الآية الكريمة وما بعدها ، تدل على أن الله - تعالى - قد اقتضت سنته ، أن يحاسب من فسق عن أمره ، وأصر على تكذيب رسله . وعلى هذا سار صاحب الكشاف ، فقد قال فإن قلت فأين جواب القسم ؟ قلت هو محذوف ، تقديره ليُدَمْدِ مَنَّ الله عليهم ، أى على مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على قبيلة ثمود لأنهم كذبوا صالحا - عليه السلام - وأما قوله { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } فكلام تابع لقوله { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم فى شئ … وقد أقسم الله - تعالى - بهذه الكائنات المختلفة ، والتى لها مالها من المنافع بالنسبة للإِنسان وغيره ، لتأكيد وحدانيته ، وكمال قدرته ، وبليغ حكمته . وبدأ - سبحانه - بالشمس ، لأنها أعظم هذه الكائنات ، وللتنويه بشأن الإِسلام ، وأن هديه كضياء الشمس ، الذى لا يترك للظلام أثرا . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث ، منها ما رواه الطبرانى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وقف ثم قال " اللهم آت نفسى تقواها أنت وليها ومولاها . وخير من زكاها " وعن أبى هريرة رضى الله عنه . قال " سمعت النبى يقرأ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال " اللهم آت نفسى تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها " " . وبعد هذا الحديث الطويل المؤكد بالقسم ، والدال على وحدانيته ، وبديع صنعه … أتبع ذلك ببيان ما حل بالمكذبين السابقين ، ليكون هذا البيان عبرة وعظة للمشركين المعاصرين للنبى ، فقال - تعالى - { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ . إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا . وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } . والمراد بثمود تلك القبيلة التى أرسل الله - تعالى - إلى أهلها صالحا - عليه السلام - لكى يأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده . ومفعول " كذبت " محذوف للعلم به . والباء فى قوله " بطغواها " للسببية ، والطَّغْوَى اسم مصدر من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد المعتاد . أى كذبت قبيلة ثمود - نبيهم صالحا - عليه السلام بسبب طغيانهم وإفراطهم فى الجحود والتكبر والعناد وقيل إن الباء للتعدية ، والطغوى اسم للعذاب الذى نزل بهم ، والذى توعدهم به نبيهم . أى كذبت ثمود بعذابها ، الذى توعدهم رسولهم به ، إذا استمروا فى كفرهم وطغيانهم . والظرف فى قوله - سبحانه - { إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا } متعلق بقوله { طغواها } ، لأن وقت انبعاث أشقاهم لقتل الناقة . هو أشد أوقات طغيانهم وفجورهم . وفعل " انبعث " مطاوع بعث ، تقول بعثته فانبعث ، كما تقول كسرته فانكسر . ويصح أن يكون متعلقا بقوله { كذبت } . وقوله { أَشْقَاهَا } أى أشقى تلك القبيلة ، وهو قُدَار - بزنة غراب - بن سالف ، الذى يضرب به المثل فى الشؤم ، فيقال فلان أشأم من قدار . أى كذبت ثمود نبيها ، بسبب طغيانها ، وقت أن أسرع أشقى تلك القبيلة ، وهو قدار بن سالف ، لعقر الناقة التى نهاهم نبيهم عن مسها بسوء . وعبر - سبحانه - بقوله { ٱنبَعَثَ } للإِشعار بأنه قام مسرعا عندما أرسله قومه لقتل الناقة ، ولم يتردد فى ذلك لشدة كفره وجحوده . وقوله - تعالى - { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا } أى فقال لهم رسول الله - تعالى - إليهم . وهو صالح - عليه السلام - على سبيل التحذير والإِنذار احذروا عقر ناقة الله - تعالى - ، واحذروا سقياها ، أى الوقت المحدد لشرابها فلا تمنعوها فيه من الشرب ، فإن لها يوم لا تشاركونها فيه الشرب ، وإن لكم يوما آخر هى لن تشارككم فيه . وقد قال لهم صالح - عليه السلام - هذا الكلام ، عندما شعر بأنهم قد بيتوا النية على عقرها . فالفاء فى قوله - تعالى - { فَقَالَ لَهُمْ … } عاطفة على قوله { كذبت } لإِفادة الترتيب والتعقيب … أى قال لهم ذلك فى أعقاب شعوره بتصميمهم على تكذيبه ، وعلى قتل الناقة . ولفظ " ناقة " منصوب على التحذير ، والكلام على حذف مضاف . أى احذروا عقر ناقة الله ، وأضيفت إلى لفظ الجلالة ، على سبيل التشريف لها ، لأنها قد جعلها - سبحانه - معجزة لنبيه صالح - عليه السلام - ودليلا على صدقه . وقوله { وَسُقْيَاهَا } معطوف على ناقة الله ، وهو منصوب - أيضا - على التحذير . أى احذروا أن تقتلوا الناقة ، واحذروا أن تشاركوها فى اليوم الخاص بشربها ، فضلا عن أن تؤذوها . وقوله - سبحانه - { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } بيان لموقفهم السيئ من تحذير نبيهم لهم ، ولما أصابهم من عذاب مهلك بسبب هذا التكذيب . وقوله { فَدَمْدَمَ } - بزنة فعلل - بمعنى تضعيف العذاب وترديده ، يقال دمدمت على الشئ ، أى أطبقت عليه ، ودمدم عليه القبر ، أى أطبقه عليه . أى فكذبت قوم صالح نبيهم ، وأصروا على هذا التكذيب ، وتجاوزوا ذلك إلى عقر الناقة التى نهاهم عن مسها بسوء … فكانت نتيجة ذلك ، أن أهلكهم الله - تعالى - وأن أخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فقد أطبق عليهم الأرض ، وسواها من فوقهم جميعا دون أن يفلت منهم أحد ، وصاروا كلهم تحت ترابها ، ونجى - سبحانه - صالحا ومن آمن معه . بفضله ورحمته . والضمير فى قوله - سبحانه - { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } يعود إلى الله - تعالى - أى ولا يخاف الله - تعالى - عاقبة ما فعله بهؤلاء الطغاة الأشقياء ، لأن الذى يخاف إنما هو المخلوق . أما الخالق لكل شئ ، فإنه - تعالى - لا يخاف أحدا ، لأنه لا يسأل عما يفعل ، ولأنه - تعالى - هو العادل فى أحكامه ، والضمير فى عقباها ، يعود إلى الفعلة أو إلى الدمدمة . ومنهم من جعل الضمير فى " يخاف " يعود إلى أشقاها ، أى أن هذا الشقى قد أسرع إلى عقر الناقة دون أن يخشى سوء عاقبة فعله ، لطغيانه وجهله . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .