Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 94, Ayat: 1-8)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } للتقرير لأنه إذا دخل على النفى قرره ، وهذا التقرير المقصود به التذكير ، حتى يداوم على شكره - تعالى - . وأصل الشرح البسط للشئ وتوسعته ، يقال شرح فلان الشئ ، إذا وسعه ، ومنه شرح فلان الكتاب ، إذا وضحه ، وأزال مجمله ، وبسط ما فيه من غموض . والمراد بشرح الصدر هنا توسعته وفتحه ، لقبول كل ما هو من الفضائل والكمالات النفسية . وإذهاب كل ما يصد عن الإِدراك السليم وعن الحق الخير والهدى . وهذا الشرح ، يشمل الشق البدنى لصدره صلى الله عليه وسلم كما يشمل الشرح المعنوى لصدره صلى الله عليه وسلم عن طريق إيداعه الإِيمان والهدى والعلم والفضائل . قال الإِمام ابن كثير قوله { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعنى أما شرحنا لك صدرك . أى نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ … } وقيل المراد بقوله { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإِسراء ، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة … وهذا وإن كان واقعا ، ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره صلى الله عليه وسلم الذى فعل بصدره ليلة الإِسراء ، ما نشأ عنه من الشرح المعنوى - أيضا - … والمعنى لقد شرحنا لك - أيها الرسول الكريم - صدرك شرحا عظيما ، بأن أمرنا ملائكتنا بشقه وإخراج ما فيه مما يتنافى مع ما هيأناك له من حمل رسالتنا إلى الناس ، وبأن أودعنا فيه من الهدى والمعرفة والإِيمان والفضائل والحكم … ما لم نعطه لأحد سواك . ونون العظمة فى قوله - سبحانه - { نشرح } تدل على عظمة النعمة ، من جهة أن المنعم العظيم ، إنما يمنح العظيم من النعم ، وفى ذلك إشارة إلى أن نعمة الشرح ، مما لا تصل العقول إلى كنه جلالتها . واللام فى قوله - تعالى - { لك } للتعليل ، وهو يفيد أن ما فعله الله - تعالى - به ، إنما هو من باب تكريمه ، ومن أجل تشريفه وتهيئته لحمل رسالته العظمى إلى خلقه ، فمنفعة هذا الشرح إنما تعود إليه وحده صلى الله عليه وسلم لا إلى غيره . قال الإِمام الرازى فإن قيل لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟ فالجواب أن محل الوسوسة هو الصدر ، كما قال - تعالى - { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } فإزالة تلك الوسوسة ، وإبدالها بدواعى الخير ، هى الشرح ، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب . قال محمد بن على الترمذى القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذى يقصده الشيطان ، فالشيطان يجئ إلى الصدر الذى هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكا أغار فيه ، وبث فيه الهموم ، فيضيق القلب ، ولا يجد للطاعة لذة ، وإذا طرد العدو فى الابتداء ، حصل الأمن ، وانشرح الصدر . . وقوله - سبحانه - { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ . ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم . والمراد بالوضع هنا الإِزالة والحط ، لأن هذا اللفظ إذا عدى بعن كان للحط والتخفيف ، وإذا عدى بعلى كان للحمل والتثقيل . تقول وضعت عن فلان قيده إذا أزلته عنه ، ووضعته عليه إذا حملته إياه . والوزر الحِمْل الثقيل ، و { أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أى أثقله وأوهنه وأتعبه ، حتى سمع له نقيض ، وهو الصوت الخفى الذى يسمع من الرَّحْل الكائن فوق ظهر البعير ، إذا كان هذا الرحل ثقيلا ، ولا يكاد البعير يحمله إلا بمشقة وعسر . والمعنى لقد شرحنا لك - أيها الرسول الكريم - صدرك ، وأزلنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة ، وعصمناك من الذنوب والآثام ، وطهرناك من الأدناس ، فصرت - بفضلنا وإحساننا - جديرا بحمل هذه الرسالة ، بتبليغها على أكمل وجه وأتمه . فالمراد بوضع وزره عنه صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنوبه ، وإلى هذا المعنى أشار الإِمام ابن كثير بقوله قوله - تعالى - { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } بمعنى { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وقال غير واحد من السلف فى قوله { ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أى أثقلك حمله … ويرى كثير من المفسرين أن المراد بوضع وزره عنه صلى الله عليه وسلم إزالة العقبات التى وضعها المشركون فى طريق دعوته ، وإعانته على تبليغ الرسالة على أكمل وجه ، ورفع الحيرة التى كانت تعتريه قبل النبوة . قال بعض العلماء وقد ذكر جمهرة المفسرين أن المراد بالوزر فى هذه الآية الذنب ، ثم راحوا يتأولون الكلام ، ويتمحلون الأعذار ، ويختلفون فى جواز ارتكاب الأنبياء للمعاصى ، وكل هذا كلام ، ولا داعى إليه ، ولا يلزم حمل الآية عليه . والمراد - والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم - بالوزر الحيرة التى اعترته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، حين فكر فيما عليه قومه من عبادة الأوثان . وأيقن بثاقب فكره أن للكون خالقا هو الجدير بالعبادة ، ثم تحير فى الطريق الذى يسلكه لعبادة هذا الخالق ، وما زال كذلك حتى أوحى الله إليه بالرسالة فزالت حيرته . ولما دعا قومه إلى عبادة الله ، وقابلوا دعوته بالإِعراض … ثقل ذلك عليه ، وغاظه من قومه أن يكذبوه … وكان ذلك حملا ثقيلا … شق عليه القيام به . فليس الوزر الذى كان ينقض ظهره ، ذنبا من الذنوب … ولكنه كان هما نفسيا يفوق ألمه ، ألم ذلك الثقل الحسى … فلما هداه الله - تعالى - إلى إنقاذ أمته من أوهامها الفاسدة … كان ذلك بمثابة رفع الحمل الثقيل ، الذى كان ينوء بحمله . لا جرم كانت هذه الآية واردة على سبيل التمثيل ، واقرأ إن شئت قوله - تعالى - { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ . وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } ويبدو لنا أن هذا القول الثانى ، هو الأقرب إلى الصواب . لأن الكلام هنا ليس عن الذنوب التى ارتكبها النبى صلى الله عليه وسلم قبل البعثة - كما يرى بعض المفسرين - وإنما الكلام هنا عن النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليه والتى من مظاهرها توفيقه للقيام بأعباء الرسالة ، وبإقناع كثير من الناس بأنه على الحق ، واستجابتهم له صلى الله عليه وسلم . وقوله - سبحانه - { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم . أى لقد شرحنا لك - أيها الرسول الكريم - صدرك ، وأزلنا عن قلبك الحيرة التى كانت تعتريك قبل تبليغ الرسالة وبعد تبليغها ، بأن يسرنا لك كل صعب . وفوق ذلك فقد رفعنا لك ذكرك ، بأن جعنالك رفيع الشأن ، سامى المنزلة ، عظيم القدر ، ومن مظاهر ذلك أننا جعلنا اسمك مقرونا باسمنا فى النطق بالشهادتين . وفى الأذان ، وفى الإِقامة ، وفى التشهد ، وفى غير ذلك من العبادات ، وأننا فضلناك على جميع رسلنا ، بل على جميع الخلق على الإِطلاق ، وأننا أعطيناك الشفاعة العظمى ، وجعلنا طاعتك من طاعتنا . قال الآلوسى أخرج أبو يعلى ، وابن جرير … عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتانى جبريل فقال لى إن ربك يقول أتدرى كيف رفعت ذكرك ؟ قلت الله - تعالى - أعلم . قال " إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معى " . ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه النعم الجليلة ، ما يدخل السرور على قلبه صلى الله عليه وسلم وما يبعث الأمل فى نفسه وفى نفوس أصحابه ، بأن بين لهم سنة من سننه التى لا تتخلف فقال { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } . والفاء للإِفصاح ، ومع بمعنى بَعْد ، وأل فى العسر لاستغراق أنواع العسر المعروفة للمخاطبين . من فقر ، وضعف ، وقلة فى الوسائل التى تؤدى إلى إدراك المطلوب . والجملة الثانية مؤكدة ومقررة للجملة الأولى . والتنكير فى قوله { يسرا } للتفخيم . والمعنى إذا تقرر عندك ما أخبرنا به ، من شرح الصدر ، ووضع الوزر . ورفع الذكر … فاعلم أنه ما من عسر إلا ويعقبه يسر ، وما من شدة إلا ويأتى بعدها الفرج ، وما من غم أو هم ، إلا وينكشف ، وتحل محله المسرة … وما دام الأمر كذلك ، فتذرع أنت وأصحابك بالصبر ، واعتصموا بالتوكل على الله ، فإن العاقبة لكم . ففى هاتين الآيتين ما فيهما من تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، ومن وعد صادق بأن كل صعب يلين ، وكل شديد يهون ، وكل عسير يتيسر . متى صبر الإِنسان الصبر الجميل ، وتسلح بالعزيمة القوية ، وبالإِيمان العميق بقضاء الله - تعالى - وقدره . وأكد - سبحانه - هاتين الآيتين ، لأن هذه القضية قد تكون موضع شك ، خصوصا بالنسبة لمن تكاثرت عليهم الهموم وألوان المتاعب ، فأراد - سبحانه - أن يؤكد للناس فى كل زمان ومكان ، أن اليسر يعقب العسر لا محالة ، والفرج يأتى بعد الضيق ، فعلى المؤمن أن يقابل المصائب بصبر جميل ، وبأمل كبير فى تيسير الله وفرجه ونصره . وقال - سبحانه - { مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } ولم يقل بعد العسر يسرا ، للإِشعار بأن هذا اليسر ، ليس بعد العسر بزمن طويل ، وإنما هو سيأتى فى أعقابه بدون مهلة طويلة ، متى وطن الإِنسان نفسه على الصبر والأمل فى فرج الله - تعالى - . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين بعض الآثار ، منها ما رواه ابن أبى حاتم ، عن عائد بن شريح قال سمعت أنس بن مالك يقول " كان النبى صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال " لو جاء العسر فدخل هذا الجحر ، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " . وعن الحسن قال كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين . وعن قتادة ذكر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه فقال " لن يغلب عسر يسرين " ومعنى هذا أن العسر مُعَرَّف فى الحالين ، فهو مفرد ، واليسر مُنَكَّر فمتعدد ، ولهذا قال " لن يغلب عسر يسرين " فالعسر الأول عين الثانى ، واليسر تعدد … وقال صاحب الكشاف فإن قلت كيف تعلق قوله { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } بما قبله ؟ قلت كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر فذكَّره الله - تعالى - بما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } ، كأنه قال خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذى أنتم فيه يسرا . فإن قلت " إن مع " للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر للعسر ؟ قلت أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذى كانوا فيه بزمان قريب ، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر ، زيادة فى التسلية ، وتقوية القلوب . فإن قلت فما المراد باليسرين ؟ قلت يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم ، وما تيسر لهم فى أيام الخلفاء … وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة . فإن قلت فما معنى هذا التنكير ؟ قلت التفخيم ، كأنه قال إن مع العسر يسرا عظيما وأى يسر … وبعد هذا التعديد لتلك النعم العظيمة ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم فى الاجتهاد فى العبادة فقال - تعالى - { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } . وأصل الفراغ خول الإِناء مما بداخله من طعام أو غيره ، والمراد به هنا الخلو من الأعمال التى تشغل الإِنسان ، والنصب التعب والاجتهاد فى تحصيل المطلوب . أى فإذا فرغت - أيها الرسول الكريم - من عمل من الأعمال ، فاجتهد فى مزاولة عمل آخر من الأعمال التى تقربك من الله - تعالى - ، كالصلاة ، والتهجد ، وقراءة القرآن الكريم . واجعل رغبتك فى جميع أعمالك وعباداتك ، من أجل إرضاء ربك ، لا من أجل شئ آخر ، فهو وحده القادر على إبلاغك ما تريد ، وتحقيق آمالك . فالمقصود بهاتين الآيتين حثه صلى الله عليه وسلم وحث أتباعه فى شخصه على استدامة العمل الصالح ، وعدم الانقطاع عنه ، مع إخلاص النية لله - تعالى - فإن المواظبة على الأعمال الصالحة مع الاخلاص فيها ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعدها سعادة . ولقد استجاب صلى الله عليه وسلم لهذا الإِرشاد الحكيم ، " فقد قام الليل حتى تورمت قدماه ، وعندما سئل لم كل هذه العبادة ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ؟ قال " أفلا أكون عبدا شكورا " . وسار أصحابه من بعده على هذا الهدى القويم فعمروا حياتهم بالباقيات الصالحات من الأعمال ، دون أن يكون للفراغ السيئ ، مكان فى حياتهم ، بل واصلوا الجهاد بالجهاد ، وأعمال البر بمثلها . ومن أقوال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إنى لأكره لأحدكم أن يكون خاليا ، لا فى عمل دنيا ولا دين " . وفى رواية أنه قال " إنى لأنظر إلى الرجل فيعجبنى ، فإذا قيل إنه لا عمل له سقط من عينى " . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يعمرون أوقاتهم بالأعمال الصالحة ، والخالصة لوجهه الكريم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .