Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 95, Ayat: 1-8)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اتفق المفسرون على أن المراد بطور سينين الجبل الذى كلم الله - تعالى - عليه موسى - عليه السلام - وسينين ، وسيناء ، وسينا ، اسم للبقعة التى فيها هذا الجبل ، بإضافة " طور " إلى ما بعده ، من إضافة الموصوف إلى الصفة . قال الإِمام الشوكانى " وطور سينين " هو الجبل الذى كلم الله عليه موسى ، اسمه الطور . ومعنى سينين المبارك الحسن … وقال مجاهد سينين كل جبل فيه شجر مثمر ، فهو سينين وسيناء . وقال الأخفش طور جبل . وسينين شجر ، واحدته سينه ، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء ، لأنه جعل اسما للبقعة . وأقسم - سبحانه - به ، لأنه من البقاع المباركة ، وأعظم بركة حلت به ووقعت فيه ، تكليم الله - تعالى - ، لنبيه موسى - عليه السلام - . كما اتفقوا - أيضا - على أن المراد بالبلد الأمين مكة المكرمة ، وسمى بالأمين لأن من دخله كان آمنا ، وقد حرمها - تعالى - على جميع خلقه ، وحرم شجرها وحيوانها ، وفى الحديث الصحيح ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال بعد فتحتها " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهى حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلى ، ولن تحل لأحد بعدى ، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار ، فلا يُعْضَد - أى يقطع - شجرها - ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد … " . إلا أن خلافهم فى المراد بقوله - تعالى - { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } ، وقد ذكر الإِمام القرطبى هذا الخلاف فقال ما ملخصه قوله { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } قال ابن عباس وغيره هو تينكم الذى تأكلون ، وزيتونكم الذى تعصرون منه الزيت . قال - تعالى - { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وهى شجرة الزيتون . وقال أبو ذر " أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم سَلة تين ، فقال " كلوا " وأكل منها . ثم قال " لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت هذه … " . وعن معاذ أنه استاك بقضيب زيتون ، وقال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة " . وهذا هو الرأى الذى تطمئن إليه النفس لأنه هو المتبادر من اللفظ وهناك أقوال أخرى رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها وتهافتها . ثم قال الإِمام القرطبى وهذا القول هو أصح الأقوال ، لأنه الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل . وإنما أقسم بالتين لأنه كان ستر آدم فى الجنة ، لقوله - تعالى - { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } وكان ورق التين ، ولأنه كثير المنافع . وأقسم بالزيتون لأنه الشجرة المباركة ، قال - تعالى - { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ … } وفيه منافع كثيرة … وقال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال من المقصود بالتين والزيتون والصواب من القول فى ذلك عندنا ، قول من قال التين هو التين الذى يؤكل . والزيتون هو الزيتون الذى يعصر منه الزيت ، لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يعرف جبل يسمى تينا ، ولا جبل يقال له زيتون . إلا أن يقول قائل المراد من الكلام القسم بمنابت التين ، ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة فى ظاهر التنزيل … وما ذهب إليه الإِمامان ابن جرير والقرطبى ، من أن المراد بالتين والزيتون ، حقيقتهما ، هو الذى نميل إليه ، لأنه هو الظاهر من معنى اللفظ ، ولأنه ليس هناك من ضرورة تحمل على مخالفته ، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، فهو صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين . وجملة { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ … } وما عطف عليه جواب القسم . أى وحق التين الذى هو أحسن الثمار ، صورة وطعما وفائدة ، وحق الزيتون الذى يكفى الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم ، وحق هذا البلد الأمين ، وهو مكة المكرمة ، وحق طور سنين الذى كلم الله - تعالى - عليه نبيه موسى تكليما … وحق هذه الأشياء … لقد خلقنا الإِنسان فى أعدل قامة ، وأجمل صورة ، وأحسن هيئة ، ومنحناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره ، من بيان فصيح ، ومن عقل راجح ، ومن علم واسع ، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه فى هذه الحياة ، بإذننا ومشيئتنا . والتقويم فى الأصل تصيير الشئ على الصورة التى ينبغى أن يكون عليها فى التعديل والتركيب . تقول قومت الشئ تقويماً ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التى ينبغى أن يكون عليها … فى التعديل والتركيب . تقول قومت الشئ تقويماً ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التى ينبغى أن يكون عليها … وهذا الحسن يشمل الظاهر والباطن للإِنسان . والمراد بالإِنسان هنا جنسه . أى لقد خلقنا - بقدرتنا وحكمتنا - جنس الإِنسان فى أكمل صورة ، وأحكم عقل … وقوله - تعالى - { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } معطوف على ما قبله وداخل فى حيز القسم . وضمير الغائب يعود إلى الإِنسان . وحقيقة الرد إرجاع الشئ إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا تصيير الإِنسان على حالة غير الحالة التى كان عليها ، وأسفل أفعل تفضيل ، أى أشد سفالة مما كان يتوقع . وللمفسرين فى هذه الآية الكريمة اتجاهات منها أن المراد بالرد هنا الرد على الكبر والضعف ، كما قال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } وعلى هذا الرأى يكون المردودن إلى أسفل سافلين ، أى إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة من العمر ، كما قال - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال " وأولى الأقوال فى ذلك عندى بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه ثم رددناه إلى أرذل العمر . إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو فى أسفل من سفل فى إدبار العمر ، وذهاب العقل … " . ومنها أن المراد بالرد هنا الرد إلى النار ، والمعنى لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى أقبح صورة ، وأخس هيئة … حيث ألقينا به فى أسفل سافلين ، أى فى النار ، بسبب استحبابه العمى على الهدى ، والكفر على الإِيمان . وقد رجح هذا الرأى ابن كثير فقال قوله { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أى إلى النار … أى ثم بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله - تعالى - ويتبع الرسل . ولهذا قال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } . وعلى هذا الرأى - أيضًا - ، يكون المردودون إلى " أسفل سافلين " أى إلى النار ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الكفار ، والفاسقون عن أمره - تعالى - . ومنها أن المراد بالرد إلى أسفل سافلين هنا الانحراف والارتداد عن الفطرة التى فطر الله - تعالى - الناس عليها ، بأن يعبد الإِنسان مخلوقاً مثله ، ويترك عبادة خالقه ، ويطيع نفسه وشهواته وهواه … ويترك طاعة ربه - عز وجل - . وقد فصل الأستاذ الإِمام هذا المعنى فقال ما ملخصه " أقسم - سبحانه - أنه قوم الإِنسان أحسن تقويم ، وركبه أحسن تركيب ، وأكد - سبحانه - ذلك بالقسم ، لأن الناس بسبب غفلتهم عما كرمهم الله به ، صاروا كأنهم ظنوا أنفسهم كسائر أنواع العجماوات ، يفعلون كما تفعل ، لا يمنعهم حياء ولا تردهم حشمة . فانحطت بذلك نفوسهم عن مقامها ، الذى كان لها بمقتضى الفطرة … فهذا قوله { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، أى صيرناه أسفل من كثير من الحيوانات التى كانت أسفل منه ، لأن الحيوان المفترس - مثلاً - إنما يصدر فى عمله عن فطرته التى فطر عليها ، لم ينزل عن مقامه ، ولم ينحط عن منزلته فى الوجود . أما الإِنسان فإنه بإهماله عقله ، وجهله بما ينبغى أن يعمله لتوفير سعادته وسعادة إخوانه ، ينقلب أرذل من سائر أنواع الحيوان ، ولطالما قلت " إذا فسد الإِنسان فلا تسل عما يصدر عنه من هذيان أو عدوان " . والذى يتأمل الرأى الثانى والثالث يرى أن بينهما تلازماً ، لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدى إلى الدخول فى النار وبئس القرار ، وهذان الرأيان أولى بالقبول ، لأن الاستثناء فى قوله - تعالى - بعد ذلك { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يؤيد ذلك ، إذ المعنى عليها لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة ، وإيثاره الغى على الرشد ، والكفر على الإِيمان . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وساروا على مقتضى فطرتهم ، فأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة … فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم ، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم ، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، " ثم " هنا للتراخى الزمانى أو الرتبى ، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل ، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر . فأسفل مفعول ثان ، والمعنى ثم جعلناه من أهل النار ، الذين هم أقبح ، وأسفل من كل سافل … ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف ، وأسفل منصوب بنزع الخافض . أى رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم … وقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } استثناء متصل من ضمير " رددناه العائد على الإِنسان ، فإنه فى معنى الجمع ، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم . وحسنا على حسنهم … " . و " ما " فى قوله - سبحانه - { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ } اسم استفهام مبتدأ ، وخبره جملة " يكذبك " . والخطاب للإِنسان الذين خلقه الله - تعالى - فى أحسن تقويم ، ففى الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب . والاستفهام للإِنكار والتعجيب من هذا الإِنسان . والمعنى فأى شئ يحملك - أيها الإِنسان - على التكذيب بالدين وبالبعث وبالجزاء ، بعد أن خلقناك فى أحسن تقويم ، وبعد أن أقمنا لك الأدلة على أن دين الإِسلام هو الدين الحق ، وعلى أن رسولنا صادق فيما يبلغك عن ربه - عز وجل - ؟ فالمقصود بقوله - تعالى - { يُكَذِّبُكَ } يجعلك مكذباً ، أى لا عذر لك فى التكذيب بالحق ، وقيل الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، وتكون " ما " بمعنى " مَنْ " ويكون الاستفهام بها عن ذوات المخاطبين ، أى فمن ذا الذى يكذبك - أيها الرسول الكريم - ويكذب بيوم الدين والجزاء ، بعد أن ظهرت الدلائل على صدقك … ؟ إن كل عاقل يجب عليه أن يصدقك ولا يكذبك ، ولا يعرض عنك . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } للتقرير إذا الجملة الكريمة تحقيق لما ذكر من خلق الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رده إلى أسفل سافلين . فكأنه - تعالى - يقول إن الذى فعل ذلك كله هو أحكم الحاكمين خلقاً وإيجاداً . وصنعاً وتدبيراً ، وقضاء وتقديراً ، فيجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة وأن يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فى كل ما جاء به من عند ربه - عز وجل - . وقد روى الإِمام الترمذى عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ منكم { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ … } ثم انتهى إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } فليقل بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعاً من عباده الصالحين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .