Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 97, Ayat: 1-5)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الضمير المنصوب فى قوله - تعالى - { أَنزَلْنَاهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، وفى الإِتيان بهذا الضمير للقرآن ، مع أنه لم يجر له ذكر ، تنويه بشأنه ، وإيذان بشهرة أمره . حتى إنه ليُسْتَغْنَى عن التصريح به ، لحضوره فى أذهان المسلمين . والمراد بإنزاله ابتداء نزوله على النبى صلى الله عليه وسلم ، لأنه من المعروف أن القرآن الكريم ، قد نزل على النبى صلى الله عليه سولم منجما ، فى مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا . ويصح أن يكون المراد بأنزلناه ، أى أنزلناه جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبى صلى الله عليه وسلم . قال الإِمام ابن كثير قال ابن عباس وغيره أنزل الله - تعالى - القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع ، فى ثلاث وعشرين سنة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم . والقَدْر الذى أضيفت إليه الليلة ، بمعنى الشرف والعظمة ، مأخوذ من قولهم لفلان قدر عند فلان ، أى له منزلة رفيعة ، وشرف عظيم ، فسميت هذه الليلة بذلك ، لعظم قدرها وشرفها ، إذ هى الليلة التى نزل فيها قرآن ذو قدر ، بواسطة ملك ذى قدر ، على رسول ذى قدر ، لأجل إكرام أمة ذات قدر ، هذه الأمة يزداد قدرها وثوابها عند الله - تعالى - إذا ما أحيوا تلك الليلة بالعبادات والطاعات . ويصح أن يكون المراد بالقدر هنا التقدير ، لأن الله - تعالى - يقدر فيها ما يشاء تقديره بعباده ، إلا أن القول الأول أظهر ، لأن قوله - سبحانه - بعد ذلك { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ } يفيد التعظيم والتفخيم . أى إنا ابتدأنا بقدرتنا وحكمتنا ، إنزال هذا القرآن العظيم ، على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فى ليلة القدر ، التى لها ما لها عندنا من قدر وشرف وعظم … لأن للطاعات فيها قدرا كبيرا ، وثوابا جزيلا . وليلة القدر هذه هى الليلة التى قال الله - تعالى - فى شأنها فى سورة الدخان { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } وهذه الليلة هى من ليالى شهر رمضان ، بدليل قوله - تعالى - { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } قال بعض العلماء ومن تسديد ترتيب المصحف ، أن سورة القدر وضعت عقب سورة العلق ، مع أنها أقل عددَ آياتٍ من سورة البينة وسور بعدها ، وكأن ذلك إيماء إلى أن الضمير فى { أنزلناه } يعود إلى القرآن ، الذى ابتدئ نزوله بسورة العلق . وقال صاحب الكشاف عظم - سبحانه - القرآن من ثلاثة أوجه أحدها أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصا به دون غيره ، والثانى أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر ، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث الرفع من مقدار الوقت الذى أنزل فيه . روى أنه جملة واحدة فى ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما فى ثلاث وعشرين سنة . وعن الشعبى المعنى أنا ابتدأنا إنزاله فى ليلة القدر … وقوله - تعالى - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ } تنويه آخر بشرف هذه الليلة ، وتفخيم لشأنها ، حتى لكأن عظمتها أكبر من أن تحيط بها الكلمات والألفاظ . أى وما الذى يدريك بمقدار عظمتها وعلو قدرها ، إن الذى يعلم مقدار شرفها هو الله - تعالى - علام الغيوب . ثم - بين - سبحانه - مظاهر فضلها فقال { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أى ليلة القدر أفضل من ألف شهر ، بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم يهدى للتى هى أقوم . ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وبسبب أن العباد فيها أكثر ثواباً ، وأعظم فضلا من العبادة فى أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر . والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير ، باعتبار الزمان والمكان ، وإخلاص النية ، وحسن الأداء ، ولله - تعالى - أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة . والتحديد بألف شهر يمكن أن يكون مقصودا . ويمكن أن يراد منه التكثير . وأن المراد أن أقل عدد تفضله هذه الليلة هو هذا العدد . فيكون المعنى أن هذه الليلة تفضل الدهر كله . ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك مزية أخرى لهذه الليلة المباركة فقال { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } . أى ومن مزايا وفضائل هذه الليلة أيضا ، أن الملائكة - وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل - ينزلون فيها أفواجا إلى الأرض ، بأمره - تعالى - وإذنه ، وهم جميعا إنما ينزلون من أجل أمر من الأمور التى يريد إبلاغها إلى عباده ، وأصل " تنزل " تتنزل ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، ونزول الملائكة إلى الأرض ، من أجل نشر البركات التى تحفهم ، فنزولهم فى تلك الليلة يدل على شرفها ، وعلى رحمة الله - تعالى - بعباده . والروح هو جبريل ، وذكره بخصوصه بعد ذكر الملائكة ، من باب ذكر الخاص بعد العام ، لمزيد الفضل ، واختصاصه بأمور لا يشاركه فيها غيره . وقوله - سبحانه - { بِإِذْنِ رَبِّهِم } متعلق بقوله { تنزل } ، والباء للسببية ، أى يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم فى النزول . قال الجمل ما ملخصه . وقوله { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } يجوز فى " من " وجهان أحدهما أنها بمعنى اللام ، وتتعلق بتنزل ، أى تنزل من أجل كل أمر قضى إلى العام القابل . والثانى أنها بمعنى الباء ، أى تنزل بكل أمر قضاه الله - تعالى - فيها من موت وحياة ورزق . وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا فى تلك الليلة بل المراد إظهار تلك المقادير لملائكته . وقوله - تعالى - { سَلاَمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ } بيان لمزية ثالثة من مزايا هذه الليلة ، وقوله { سَلاَمٌ } مصدر بمعنى السلامة ، وهو خبر مقدم ، و { هى } مبتدأ مؤخر ، وإنما قدم الخبر تعجيلا للمسّرة ، وقد أخبر عن هذه الليلة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على سبيل تأويل المصدر باسم الفاعل ، أو على تقدير مضاف … والمراد بمطلع الفجر طلوعه وبزوغه . أى هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر ، والأمان الدائم ، لكل مؤمن يحييها فى طاعة الله - تعالى - إلى أن يطلع الفجر ، أو هى ذات سلامة حتى مطلع الفجر ، أو هى سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر . هذا وقد أفاض العلماء فى الحديث عن فضائل ليلة القدر ، وعن وقتها . وعن خصائصها … وقد لخص الإِمام القرطبى ذلك تلخيصا حسناً فقال وهنا ثلاث مسائل الأولى فى تعيين ليلة القدر … والذى عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين … والجمهور على أنها فى كل عام من رمضان … وقيل أخفاها - سبحانه - فى جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا فى العمل والعبادة طمعا فى إدراكها . الثانية فى علاماتها ومنها أن تطلع الشمس فى صبيحتها بيضاء لاشعاع لها . الثالثة فى فضائلها … وحسبك قوله - تعالى - { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } وقوله { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } وفى الصحيحين " من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه … " . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المنتفعين بهذه الليلة المباركة . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .