Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 22-22)

Tafsir: Anwār at-tanzīl wa-asrār at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } صفة ثانية ، أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله : @ فَقَدْ جعلتُ قلوصَ بني سُهَيل مِنْ الأَكْوارِ مرتعُها قَريبُ @@ وبمعنى أوجد فيتعدّى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى . ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً ظاهراً عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها . واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها . { وَٱلسَّمَاء بِنَاءً } قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل : جمع سماءة . والبناء مصدر ، سمي به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباءً جديداً . { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } عطف على ( جعل ) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجاً من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأُولي الأبصار عبراً ، وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و { مِنْ } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدىء من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر . أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً . و { مِنْ } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } [ فاطر : 27 ] واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقاً كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثماراً . أو للتبيين ، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً . وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيده قراءة من قرأ : « من الثمرة » على التوحيد . أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } [ الدخان : 25 ] وقوله : { ثَلَـٰثَةَ قُرُوء } [ البقرة : 228 ] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة . و { لَكُمْ } صفة رزقاً إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقاً إياكم . { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه . أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له . أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى : { لَّعَـلّى أَبْلُغُ ٱلاْسْبَـٰبَ أَسْبَـٰبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 36 - 37 ] إلحاقاً لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أنداداً ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبراً على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يُشْرَكَ به . والند : المثل المناوىء ، قال جرير : @ أَتيماً تَجْعلونَ إليَّ ندَّا وما تيمٌ لِذي حَسَبٍ نَدِيدُ @@ من ند يند ندوداً : إذا نفر ، وناددت الرَجُلَ خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله ( أنداداً ) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ند . ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل : @ أَرَبّاً واحِداً أَمْ أَلفُ رَب أَدِينُ إِذا تقسَّمتِ الأمورُ تركْت اللاتَ والعزَّى جميعاً كذلكَ يَفْعَلُ الرجُلُ البصِيرُ @@ { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات . أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } [ الروم : 40 ] وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف . واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكول والمشروب . ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى ، رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حد مطلعاً .