Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 29-29)
Tafsir: Anwār at-tanzīl wa-asrār at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى { لَكُمْ } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . وجميعاً : حال من الموصول الثاني . { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ } قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى ومَلَكَ ، قال : @ قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق مِنْ غَير سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ @@ والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و { ثُمَّ } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } [ النازعات : 30 ] فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه { أَاَنتم أَشَدُّ خَلْقاً } [ النازعات : 27 ] مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر . { فَسَوَّاهُنَّ } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و { هُنَّ } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلاً . { سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } بدل أو تفسير . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف . { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليماً ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : { وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [ البقرة : 28 ] فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها ، قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراعٍ فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سَكَّنَ نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيهاً له بعضد .