Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 97-105)
Tafsir: Anwār at-tanzīl wa-asrār at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ } كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها ، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل . والجملة مفسرة للهدى ، أو حال أخرى . { مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ } مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل . وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف السنين . ويؤيده أنه قرىء « آية » بينة على التوحيد . وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه . { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة ابتدائية ، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله ، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله . اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام " حبب إليَّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " لأن فيهما غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، قال عليه السلام : " من مات في أحد الحرمين ، بعث يوم القيامة آمناً " وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجىء إلى الخروج . { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } قصده للزيارة على الوجه المخصوص . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { حَجَّ } بالكسر وهو لغة نجد . { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة " بالزاد والراحلة " وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال ، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه . وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين . والضمير في إليه للبيت ، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله . { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وضع كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه ، ولذلك قال عليه السلام " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوبه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر ، وإبرازه في الصورة الإِسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس ، وتعميم الحكم أولاً ثم تخصيصه ثانياً فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد ، وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله : { عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإِشعار بعظم السخط ، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإِقبال على الله . روي ( أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول صلى الله عليه وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال " إن الله تعالى : كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر " { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ ٱللَّهِ } أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره ، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح ، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإِنجيل فهم كافرون بهما . { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار . { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ } كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم ، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب ، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام . قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم ما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه . { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجاً بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحق ، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوهما ، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم . { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } إنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال ، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا . { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد لهم ، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله : { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ } نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون ، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح ، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم ، وإشعاراً بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم . { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر . { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ } ومن يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره . { فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ } فقد اهتدى لا محالة . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } حق تقواه وما يجب منها ، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : هو أن يطيع فلا يعصي ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى . وقيل هو : أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها . وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب ، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمه والياء ألفاً . { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي ولا تكونن على حال سوى حال الإِسلام إذا أدرككم الموت ، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي . { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } بدين الإِسلام ، أو بكتابه لقوله عليه السلام : " القرآن حبل الله المتين " . استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردي ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردى والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحاً للمجاز . { جَمِيعاً } مجتمعين عليه { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة . { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإِسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل . { إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً } في الجاهلية متقاتلين . { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإِسلام . { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإِسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم . { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ } مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار . { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } بالإِسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار ، أو للشفا . وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث . { كَذٰلِكَ } مثل ذلك التبيين . { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } دلائله . { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه . { وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها . خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً ولكن يسقط بفعل بعضهم ، وهكذا كل ما هو فرض كفاية . أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ آل عمرآن : 110 ] والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي ، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عطف الخاص على العام للإيذان بفضله . { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } المخصوصون بكمال الفلاح روي : أنه عليه السلام سئل من خير الناس فقال : " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم " والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به . والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام . والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر . { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ } كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت . { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ } الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه . والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه السلام " اختلاف أمتي رحمة " ولقوله عليه الصلاة والسلام " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد " { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم .