Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 43-50)

Tafsir: Anwār at-tanzīl wa-asrār at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ، و { فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } حال من التوراة إن رفعتها بالظرف ، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظاً كموماة ودوداة . { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم ، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب . { وَمَا أُوْلَٰـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } بكتابهم لإِعراضهم عنه أولاً وعما يوافقه ثانياً ، أو بك وبه . { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الحق . { وَنُورٌ } يكشف عما استبهم من الأحكام . { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ } يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به . { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم وتنويهاً بشأن المسلمين ، وتعريضاً باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم . { لِلَّذِينَ هَادُواْ } متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم . { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للنبيين . { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا . { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير . { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها . { ثَمَناً قَلِيلاً } هو الرشوة والجاه { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } مستهيناً به منكراً له . { فَأُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله { ٱلْكَـٰفِرُونَ } و { ٱلظَّـٰلِمُونَ } و { ٱلْفَـٰسِقُونَ } ، فكفرهم لإِنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه . ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } وفرضنا على اليهود . { فِيهَا } في التوراة . { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } أي أن النفس تقتل بالنفس . { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسّنَّ بِٱلسِنّ } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع { وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ } وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع . { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي ذات قصاص ، وقرأة الكسائي أيضاً بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل . { فَمَن تَصَدَّقَ } من المستحقين . { بِهِ } بالقصاص أي فمن عفا عنه . { فَهُوَ } فالتصدق . { كَفَّارَةٌ لَّهُ } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه . وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه . وقرىء « فهو كفارته له » أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } من القصاص وغيره . { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } . { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم } أي وأتبعناهم على آثارهم ، فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه ، والضمير للنبيون . { بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } مفعول ثان عدي إليه الفعل بالباء . { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلإنجِيلَ } وقرىء بفتح الهمزة . { فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } في موضع النصب بالحال . { وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } عطف عليه وكذا قوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } ويجوز نصبهما على المفعول له عطفاً على محذوف أو تعلقاً به وعطف . { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } « عليه » في قراءة حمزة ، وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم ، وقرىء : « وأن ليحكم » على أَنَّ أَنْ موصولة بالأمر كقولك : أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } عن حكمه ، أو عن الإِيمان إن كان مستهيناً به ، والآية تدل على أن الإِنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه كان مستقلاً بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر . { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ } أي القرآن . { مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } من جنس الكتب المنزلة ، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس . { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ورقيباً على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات ، وقرىء على بنية المفعول أي هومن عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى ، أو الحفاظ في كل عصر . { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي بما أنزل الله إليك . { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ٱلْحَقّ } بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للاتتبع لتضمنه معنى لا تنحرف ، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلاً عما جاءك . { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أيها الناس . { شِرْعَةً } شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية . وقرىء بفتح الشين . { وَمِنْهَـاجاً } وطريقاً واضحاً في الدين من نهج الأمر إذا وضح . واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة . { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب ، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه . { وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءَاتَـٰكُمْ } من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن ، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية ، أم تزيغون عن الحق وتفرِّطون في العمل . { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم . { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر . { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم . { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي أن يضلوك ويصرفوك عنه ، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك . روي " أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم ، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " فنزلت . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الحكم المنزل وأرادوا غيره . { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فعبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها ، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد : @ أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُهَا @@ { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ } لمتمردون في الكفر معتدون فيه . { أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } الذي هو الميل والمداهنة في الحكم ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى . وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى . وقرىء برفع الحكم على أنه مبتدأ ، و { يَبْغُونَ } خبره ، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] واستضعف ذلك في غير الشَعر وقرىء أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكماً كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم . وقرأ ابن عامر « تبغون » بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي عندهم ، واللام للبيان كما في قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله سبحانه وتعالى .