Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 1-7)

Tafsir: Taysīr at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } : الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً ، ومعناهما الثناء الجميل ، وهما هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء . وبعضهم فرقاً بينهما ، فيقول : الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث : " من لم يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله " . أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده . وهو منهيٌّ عنه ، لحديث " احثُوا في وجوه المدّاحين التراب " . والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة : السيد المطاع ، والرجل المصْلِح للشيء ، والمالك للشيء . فربُّنا جل ثناؤه : السيد المطاع في خلقه ، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخَلْق والأمر . { ٱلْعَالَمِينَ } : جميع الكائنات في هذا الوجود . فمعنى { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرض ، ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم وما لا يُعلم ، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين . { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } : الرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة ، وقد تقدم انه لا يوصف بها الا الله : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1ـ2 ] . { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [ الإسراء : 110 ] . أما الرحيم ، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة : { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقر : 143 ] { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] . ولا نطيل أكثر من ذلك ، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتهما وتكرارهما . فنأياً عن أن يُفهم من لفظة الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه ، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال . فذكَر " الرحمن " اي المفيض للنعم بسعة وتجدُّد لا منتهى لهما ، و " الرحيم " الثابتَ له وصف الرحمة ، لا تزايله أبدا . بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان ، ليعلموا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته . هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى ان الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان . وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله ، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم . فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه ، فلْيمضِ فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان . ان ذلك أوفى الى ان يُصلح الله به ، وأقربُ ان تناله رحمته . { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } : قرىء : " مَلك يَوم الدِّين " و " مالكِ يوم الدين " قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده . { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الإنفطار : 19 ] لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق . وللفظ " الدين " معان كثيرة ، منها المكافأة والعقوبة ، وهذا المعنى يناسب المقام . وفي هذا تربية أُخرى للعبد ، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن ، واساءة المسيء ، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة ، وتوقَّع المحاسبة ، فكان ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل . { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة . والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل ، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى ، لأنهُ مولي أعظم النعم ، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع . أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له . وترشدنا عبارة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة . أحدهما : أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا ، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عملٍ يود المرء أن يبذل فيه طاقته ، فهو يطلب المعونة على اتمامه . وثانيهما : قصْر الاستعانة بالله عليه وحده . وليس في هذا ما ينافي التعاون بين الناس . { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 2 ] . فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشرية لا يخرج عنها . قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن . وسرُّها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة ، وتفويضٌ إلى الله عز وجل . { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } : هداه الله هُدًى وهَدْياً وهِدَايةً الى الإيمان أرشده ، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به . و الهداية دلالة بلطف ، كما يقول الراغب الاصفهاني ، والصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف . والصراط المستقيم ههنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل ، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل ، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه . فالشريعة الاسلامية في جميع امورها من عقيدة ، واخلاق ، وتشريع ، وفي صلة الانسان بالحياة ، وعلاقته بالمجتمع ، وعلاقة المسلمين بالأمم تأخذ الطريق الصائب ، لا إفراط ولا تفريط . هذا هو الصراط المستقيم . وهداية الله تعالى لا تحصى ، نذكر منها : أولاً : الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه ، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال عز وجل { ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] . ثانياً : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل ، والصلاح والفساد : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] ، وقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصلت : 17 ] . ثالثاً : الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الآنبياء : 73 ] ، وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] . رابعاً : الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي ، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة . وهذا القسم يختص بنيله الأولياء . والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . وقال ابن تيمية : " كل عبد مضطرٌّ دائما الى مقصود هذا الدعاء ، أي هداية الصراط المستقيم . فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ، ولا وصول الى السعادة الا بها ، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم ، واما من الضالين " . وهذا الاهتداء لا يحصل الا بهدى الله { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] . وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . اختلف المفسرون في بيان : الذين أنعم اللهُ عليهم ، والمغضوبِ عليهم ، والضآلِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك . وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق : الفرقة الأولى : أهل الطاعة { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 3ـ5 ] ، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم . الفرقة الثانية : الكافرون : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 6ـ7 ] ، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم . الفرقة الثالثة : هم المنافقون الحائرون ، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطني { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] فهم { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] . وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون . وقد فصّل الله تعالى هذه الفرق الثلاث في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله . القراءات : قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل ، والكسائي عن طريق رويس " السراط " بالسين في الموضعَين ، وقرأ الباقون " الصراط " بالصاد ، وهي لغة قريش . هذه هي سورة الفاتحة ، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود : تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته ، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين ؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العملية في الحياة ، سواء في العبادات أو المعاملات . فالعبادة لله ، والاستعانة به ، والهداية منه بالتزام طريق الله ، والبعد عن طريق الجاحدين والضالين المتحدّين . هذا والمتتبع للقرآن جميعه ، الواقف على مقاصده ومعارفه ، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة . بهذا كانت " فاتحة الكتاب " و " أمَّ القرآن " و " السبع المثاني " والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة .