Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 190-195)

Tafsir: Taysīr at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الخلق : التقدير والترتيب الدال على الاتقان . اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما . الألباب : العقول . وعلى جنوبهم : مضطجعين . الأبرار : المحسنون ، واحدُها بار أو بَر . على رسُلك : على أَلسنة رسلك . من أسلوب القرآن الكريم انه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق ، فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب . فقد اشتملت هذه الآيات الحكيمة على ثلاثة أمور : الأول : لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين ، عاد التنزيل الى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والالوهية . فقال : ان هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح ، يحمل دلائل الايمان وآياته ، ويشير الى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة ، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً آخرة ، وحساباً وجزاء . هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة ، وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى . وقد آمن الفلاسفة بالحياة الاخرى قبل الاديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا . فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان " أفلاطون " ، ومن أشهرهم بعدها " عمانويل كانت " ، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت … ونريد من الاشارة الموجزة الى رأي هذين الفيلسوفين ، ان يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت انها مسألة بحث وتفكير ، لا قضية اعتقاد وايمان فحسب … ان العقل لا يخرجها من تناول بحثه ، فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال . وعلى هذا ، ينبغي ان يروض فكره كلُّ من ينظر الى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم . وانما يدرك هذه الدلائل ، ويرى هذه الحكمة " أُولو الألباب " من الناس ، لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة ، وعقولهم مغلقة غير واعين . والثاني : مدحٌ لأولي الألباب الذين يذكرون الله على كل حال ، فهم يتفكرون في عظمة هذا الكون ثم يبتهلون الى الله بهذه الدعوات الصادقة ، المنبعثة من قلوب صافية مؤمنة . والأمر الثالث : استجابة الخالق العظيم لهم ، بأنه لا يضيع أجر أحد ، وأنهم سيرجعون الى رب رحيم ، عادل ، قد أعدّ لهم أحسن الثواب وأجمل الاقامة . وها هو التفسير باقتضاب : ان في خلق الله للسماوات والأرض ، بما فيهما من ابداع ، وإحكام نظام ، وبديع تقدير ، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله ، وكمال قدرته . وفي هذه الآية اشارة الى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب ، ذلك ان السماء ما هي الا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض . فعندما تسقط هذه الأشعة على ذريرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو ، وما يحمله من دقائق عالقة به تنعكس هذه الأشعة وتتشتت ، فنرى نحن الضوء الأبيض الذي يتألف من جميع الألوان المرئية . وصفوة القول ، ان ضوء النهار يتطلب الاشعاع الشمسي ، وكميةً متناسبة من الغبار الجوي . فقد حدث في سنة 1944 أن أظلمت السماء فجأة في وضح النهار ، ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل . وقد ظل الأمر كذلك زمناً وجيزاً ، ثم تحولت السماء الى لون أحمر ، تدرّج الى لون برتقالي ، فأصفر ، حتى عادت الى حالتها الطبيعية ، بعد نحو ساعة أو أكثر . وقد تبين فيما بعد ان هذه الظاهرة نشأت من تفتُّت نيزك في السماء ، استحال الى رماد ، وحملته الرياح الى مسافات بعيدة من أواسط افريقية الى شمالها ، ثم الى غربي آسيا ، حيث شوهدت هذه الظاهرة في سورية . وتفسير ذلك ان الغبار المعلق في الفضاء قد حجب نور الشمس ، فلما قلّت كثافته أخذ الضوءُ في الاحمرار والاصفرار الى ان عاد طبيعيا . أما ما نراه في هذه السماء من نجوم وأجرام سماوية ومجرّات وكائنات ، فهي أمور كُتب فيها مجلدات و موسوعات يتطلب التعرف على أنظمتها دراسة واسعة وتخصصا كبيرا ، وهي مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التي تتجلى في خلقه كلَّ ذلك . والأرض أهم عالم عرفناه ، وفيها أحوال لا تُوجد مثلها في شيء من هذا الكون الواسع . وهي على ضخامتها في نظرنا لا تساوي في الحقيقة ذرة في هذا الكون العجيب . ولو ان حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن ، لاستحالت الحياة فوقها . وهي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة ، وفيها جاذبية غير عادية ، وهي تشد كل شيء اليها بفعل تلك الجاذبية . وتُكمل الأرض دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة ، ولو فرضنا ان انخفضت هذه السرعة الى مائتي ميل في الساعة ، لطالت أوقات لَيلِنا ونهارنا عشرات المرات ، عما هي عليه الآن . ويترتب على ذلك ان تحرق الشمس كل شيء فوق الارض ، فإن بقي بعد ذلك شيء قضت عليه البرودة الشديدة في الليل . ثم ان هذه الارض دائرة في الفضاء حول الشمس ، وعلى زاوية محددة ، الأمر الذي تنشأ عنه فصول السنة ، وصلاحية البقاع للزراعة والسكن ، فلو لم تَسِر الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة ، ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبا ، ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج وفيافي الصحراوات … اذ ذاك تغدو الحياة على هذه الأرض مستحيلة تماماً . ولو كانت قشرة الارض أكثر سُمكاً مما هي الآن بمقدار عشرة أقدام لما وجد الأكسجين ، لأن القشرة الارضية ستمتص الاوكسجين في تلك الحال . وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية . وكذلك لو كانت البحار أعمق مما هي الآن بضعة أقدام ، لا نجذبَ إليها غاز ثاني اوكسيد الكربون ، والاوكسجين ، ولاستحال وجود النباتات عند ذلك . ويحيط بالأرض غلاف جوي خليط من الغازات التي تحتفظ بخصائصها ، وأقربُ طبقات الارض الى سطحها تسمى تروبوسفير ، وهي تمتد الى ارتفاع ثمانية كيلو مترات عند القطبين والى 11 كم في خطوط العرض الوسطى ، و12 كم عند خط الاستواء . وفي هذه الطبقة يحدث خلط مستمر للهواء نتيجة للتيارات الصاعدة والهابطة … ويتركب الغلاف الجوي من الأزوت والأوكسجين ، والأرغون ، وثاني أوكسيد الكربون ، وكميات ضئيلة من غازات النيون والكريتون والهيليوم والأيدروجين والكسينون والأوزون ، بالاضافة الى كميات متغيرة من بخار الماء والغبار . ولكل هذه المواد نسب معينة محددة لا تزيد ولا تنقص . ولو كان الغلاف الجوي للأرض ألطف مما عليه الآن ، لاخترقت النيازك الغلاف الخارجي منه كل يوم ، ولرأينا هذه النيازك مضيئة في الليل ، ولسقطت على كل بقعة من الارض وأحرقتها . فلولا ان غلاف الارض الهوائي يقينا من هذه الشهب لأحرقتنا . ذلك ان سرعتها أكبر من سرعة طلقة البندقية بتسعين مرة ، كما ان حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل ما على سطح هذه الأرض . والآن . ألا يدل هذا التوازن الدقيق العجيب جداً على قدرة الخالق وبديع صنعه ! الحق أنه لم يكن صدفة ، ولا وُجد عفوا كما يقول المبطلون الجاهلون . لكن ، من يدرك ذلك ؟ إنهم أولوا الألباب ، فهم الذين ينظرون إليه ثم يستحضرون في نفوسهم عظمة الله وجلاله . ومن ثم تجدهم لا يغفلون عنه تعالى في جميع أحوالهم : قائمين ، وقاعدين ، وعلى جنوبهم . وهم يتفكرون في خلق السماوات والارض ، وما فيها من عجائب ثم يقولون : ربنا ما خلقتَ كل هذا الكون العجيب عبثا ، بل وِفق حكمة قدّرتَها ، إنك أنت العزيز الحكيم . وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بدائع خلقه ، فوفّقنا يا ربُّ بعنايتك الى العمل الصالح حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار . ثم إنهم يضرعون الى ربهم قائلين : يا ربنا وخالقنا ، إن من يستحق النار بأعماله السيئة سيلقاها ، وبذلك تكون قد أخزيته وأظهرتَ فضيحته . وليس للظالمين الذين استحقوا النار أنصار يحمونهم يوم القيامة من دخول النار . ثم يتّجهون بقلوب خاشعة تطلب المغفرة الواسعة ، والوفاةَ مع الأبرار فيبتهلون : يا ربنا ، إننا سمعنا رسولك الكريم يدعو الى الإيمان بك ، فأطعناه وآمنّا ، فاغفر لنا ذنوبنا كبيرها وصغيرها ، وكفّر عنا سيئاتنا واجعلنا في الآخرة من عبادك الأخيار . أعطنا يا ربُّ ما وعدتنا على ألسنة رُسلك الكرام من حسن الجزاء في الدنيا كالنصر والتأييد ، ومن النعيم في الآخرة . لا تفضحنا يا ربّ ولا تهتك سترنا يوم القيامة ، انك لا تخلِف ما وعدت به جزاء الإيمان وصالح الأعمال . ولقد استجاب لهم ربهم طلبهم بعد تلك المناجاة اللطيفة ، والدعاء الخالص ، فطمأنهم الى انه لا يُضيع ثواب عامل ، ذكراً كان أم أنثى ، فكلّهم سواء في الانسانية . وفي هذه الآية نصٌّ على ان الذكر والأنثى متساويان عند الله ولا تفاضل بينهما الا بالأعمال . بعد ذلك ينتقل البحث الى المهاجرين من مكّة ، فالذين هاجروا يريدون وجه الله ، أو أُخرجوا من ديارهم ونالهم الأذى في سبيل الله ، وقاتلوا وتعرضوا للقتل قد كتب الله على نفسه ان سيمحو عنهم سيئاتهم ، ويُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار . والله وحده عنده الثواب الجميل . قراءات : قرأ حمزة والكسائي " وقتلوا وقاتلوا " ، وقرأ ابن كثير وابن عامر " وقتلوا " بتشديد التاء .