Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 16-18)

Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } البقرة 16 قال أخذوا الضلالة ، وتركوا الهدى ، وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي الكفر بالإيمان ، وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا . وقال قتادة استحبوا الضلالة على الهدى ، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } فصلت 17 وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال ، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهو معنى قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة ، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الايمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } المنافقون 3 أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى ، كما يكون حال فريق آخر منهم ، فإنهم أنواع وأقسام ، ولهذا قال تعالى { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، وما كانوا مهتدين ، أي راشدين في صنيعهم ذلك ، وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء . قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } يقال مَثَل ومِثْل ومثيل أيضاً ، والجمع أمثال ، قال الله تعالى { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } العنكبوت 43 وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى ، بمن استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله ، وانتفع بها ، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتأنس بها ، فبينا هو كذلك ، إذ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يُبصر ولا يهتدي ، وهو مع هذا أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى ، واستحبابهم الغي على الرشد ، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع ، والله أعلم . وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي ، ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك ، فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين . وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } البقرة 8 والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا ، وهي قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } المنافقون 3 فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة . قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوتِ } الأحزاب 19 أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَٰحِدَةٍ } لقمان 28 وقال تعالى { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } الجمعة 5 وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً ، وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر @ وإنَّ الذي حانَتْ بفَلْجٍ دِماؤهُمْ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ @@ قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي ذهب عنهم بما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبيل خير ، ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيراً { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْىٌ } في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ } الحج 46 فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة . ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة ، فأوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك ، فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، والخير والشر ، فبينما هو كذلك ، إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر . وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثم نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك . وقال مجاهد { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى . وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل المنافق ، يبصر أحياناً ، ويعرف أحياناً ، ثم يدركه عمى القلب . وقال ابن أبي حاتم وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } إلى آخر الآية . قال هذه صفة المنافقين ، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ، ثم كفروا ، فذهب الله بنورهم ، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون ، وأما قول ابن جرير ، فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ، ويوارثونهم ، ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا ، سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة . وقال الضحاك { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم ، فهو إيمانهم الذي تكلموا به . وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي لا إله إلا الله ، أضاءت لهم ، فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ، ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون . وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله ، فأضاءت له في الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ، سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله . { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } يقول في عذاب إذا ماتوا . وقال محمد بن إسحاق عن محمد ابن أبي محمد عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } أي يبصرون الحق ، ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر ، أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق . وقال السدي في تفسيره بسنده { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم . وقال الحسن البصري وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فذلك حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } قال السدي بسنده صم بكم عمي فهم خرس عمي . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } يقول لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرونه ، ولا يعقلونه . وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال السدي بسنده { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام . وقال قتادة فهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون ، ولا هم يذكرون .