Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 71, Ayat: 5-20)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلام أنه اشتكى إلى ربه عزّ وجلّ ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وما بين لقومه ووضح لهم ، ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم ، فقال { رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } أي لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالاً لأمرك ، وابتغاء لطاعتك { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِىۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق ، فروا منه ، وحادوا عنه ، { وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَـٰبِعَهُمْ فِىۤ ءَاذَٰنِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه كما أخبر تعالى عن كفار قريش { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت 26 { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } قال ابن جرير عن ابن عباس تنكروا له لئلا يعرفهم . وقال سعيد بن جبير والسدي غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول ، { وَأَصَرُّواْ } أي استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع ، { وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } أي واستنكفوا عن اتّباع الحق والانقياد له ، { ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَـٰراً } أي جهرة بين الناس { ثُمَّ إِنِّىۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ } أي كلاماً ظاهراً بصوت عال ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي فيما بيني وبينهم ، فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم . { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي ارجعوا إليه ، وارجعوا عما أنتم فيه ، وتوبوا إليه من قريب فإنه من تاب إليه ، تاب عليه ، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك ، ولهذا قال { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً } أي متواصلة الأمطار ، ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية ، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي ، فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار ، ومنها هذه الآية { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً } ثم قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر . وقال ابن عباس وغيره يتبع بعضه بعضاً . وقوله تعالى { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه ، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأنبت لكم الزرع ، وأدرّ لكم الضرع ، وأمدّكم بأموال وبنين ، أي أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار ، وخللها بالأنهار الجارية بينها ، هذا مقام الدعوة بالترغيب ، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ؟ أي عظمة ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك ، وقال ابن عباس لا تعظمون الله حق عظمتة ، أي لا تخافون من بأسه ونقمته { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } قيل معناه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد . وقوله تعالى { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ طِبَاقاً } ؟ أي واحدة فوق واحدة . وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أوهو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضاً ، فأدناها القمر في السماء الدنيا ، وهو يكسف ما فوقه ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة ، وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ، ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت ، والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي ، والفلك التاسع ، وهو الأطلس والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك ، وذلك أن حركته مبدأ الحركات ، وهي من المغرب إلى المشرق ، وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ، ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً ، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من المغرب إلى المشرق ، وكل يقطع فلكه بحسبه ، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة ، والشمس في كل سنة مرة ، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة ، وذلك بحسب اتساع أفلاكها ، وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة ، هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام ، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها ، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى { خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } أي فاوت بينهما في الاستنارة ، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدر للقمر منازل وبروجاً ، وفاوت نوره ، فتارة يزداد حتى يتناهى ، ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهور والأعوام ، كما قال تعالى { هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يونس 5 . وقوله تعالى { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } هذا اسم مصدر ، والإتيان به ههنا أحسن ، { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } أي إذا متم ، { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة ، { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي بسطها ومهدها وقررها ، وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي خلقها لكم لتستقروا عليها ، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها ، وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء ، والأرض مهاداً ، وأوسع على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ، ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا عديل ، ولا ند ولا كفء ، ولا صاحبة ولا ولد ، ولا وزير ولا مشير ، بل هو العلي الكبير .