Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 1-14)

Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أما الفجر فمعروف ، وهوالصبح ، قاله علي وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي ، وعن مسروق ومحمد بن كعب المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر ، وقيل المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده كما قاله عكرمة ، وقيل المراد به جميع النهار ، وهو رواية عن ابن عباس ، والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام " يعني عشر ذي الحجة ، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال " ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء " وقيل المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، حكاه أبو جعفر بن جرير ، ولم يعزه إلى أحد ، وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس { وَلَيالٍ عَشْرٍ } قال هو العشر الأول من رمضان ، والصحيح القول الأول . قال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر " ، ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله ، وكل منهما عن زيد بن الحباب به . ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به ، وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم ، وعندي أن المتن في رفعه نكارة ، والله أعلم . وقوله تعالى { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع ، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر ، وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضاً قول ثان وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب قال سألت عطاء عن قوله تعالى { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قلت صلاتنا وترنا هذا ؟ قال لا ، ولكن الشفع يوم عرفة ، والوتر ليلة الأضحى قول ثالث قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثني أبي عن النعمان ، يعني ابن عبد السلام ، عن أبي سعيد بن عوف ، حدثني بمكة قال سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس ، فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر ، فقال الشفع قول الله تعالى { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } والوتر قوله تعالى { وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } . وقال ابن جريج أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول الشفع أوسط أيام التشريق ، والوتر آخر أيام التشريق ، وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " . قول رابع قال الحسن البصري وزيد بن أسلم الخلق كلهم شفع ووتر ، أقسم تعالى بخلقه ، وهو رواية عن مجاهد ، والمشهور عنه الأول ، وقال العوفي عن ابن عباس { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قال الله وتر واحد ، وأنتم شفع ، ويقال الشفع صلاة الغداة ، والوتر صلاة المغرب . قول خامس قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قال الشفع الزوج ، والوتر الله عز وجل . وقال أبو عبد الله عن مجاهد الله الوتر ، وخلقه الشفع الذكر والأنثى . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } كل شيء خلقه الله شفع السماء والأرض ، والبر والبحر ، والجن والإنس ، والشمس والقمر ، ونحو هذا ، ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى { وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } الذاريات 49 أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد قول سادس قال قتادة عن الحسن { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } هو العدد ، منه شفع ، ومنه وتر . قول سابع في الآية الكريمة رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج ، ثم قال ابن جرير وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرني عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله قال " الشفع اليومان ، والوتر اليوم الثالث " هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم ، وما رواه هو أيضاً ، والله أعلم . قال أبو العالية والربيع بن أنس وغيرهما هي الصلاة ، منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر كالمغرب فإنها ثلاث ، وهي وتر النهار ، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل . وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عمران بن حصين { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قال هي الصلاة المكتوبة ، منها شفع ، ومنها وتر . وهذا منقطع وموقوف ، ولفظه خاص بالمكتوبة . وقد روي متصلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظه عام . قال الإمام أحمد حدثنا أبو داود ، هو الطيالسي ، حدثنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام أن شيخاً حدثه من أهل البصرة ، عن عمران ابن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال " هي الصلاة ، بعضها شفع ، وبعضها وتر " هكذا وقع في المسند ، وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن عفان ، وعن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى ، وكلاهما عن همام ، وهو ابن يحيى ، عن قتادة عن عمران بن عصام ، عن شيخ عن عمران بن حصين ، وكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن عمرو بن علي عن ابن مهدي وأبي داود ، كلاهما عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام عن رجل من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين به ، ثم قال غريب ، لا نعرفه إلا من حديث قتادة ، وقد رواه خالد بن قيس أيضاً عن قتادة ، وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران نفسه ، والله أعلم . قلت ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي ، شيخ من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، هكذا رأيته في تفسيره ، فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام . وهكذا رواه ابن جرير أخبرنا نصر بن علي ، حدثني أبي ، حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفع والوتر قال " هي الصلاة ، منها شفع ، ومنها وتر " فأسقط ذكر الشيخ المبهم ، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري إمام مسجد بني ضبيعة . وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، روى عنه قتادة ، وابنه أبو جمرة ، والمثنى بن سعيد ، وأبو التياح يزيد بن حميد ، وذكره ابن حبان في كتاب " الثقات " ، وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل البصرة ، وكان شريفاً نبيلاً حظياً عند الحجاج بن يوسف ، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث ، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد ، وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم ، ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر . وقوله تعالى { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال العوفي عن ابن عباس أي إذا ذهب ، وقال عبد الله بن الزبير { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } حتى يذهب بعضه بعضاً ، وقال مجاهد وأبو العالية وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } إذا سار ، وهذا يمكن حمله على ما قال ابن عباس ، أي ذهب ، ويحتمل أن يكون المراد إذا سار ، أي أقبل ، وقد يقال إن هذا أنسب لأنه في مقابلة قوله { وَٱلْفَجْرِ } فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } على إقباله كان قسماً بإقبال الليل ، وإدبار النهار ، وبالعكس كقوله { وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } التكوير 17 ــــ 18 وكذا قال الضحاك { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } أي يجري ، وقال عكرمة { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر عن كثير بن عبد الله بن عمرو قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في قوله { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال اسر يا سار ، ولا تبيتن إلا بجمع ، وقوله تعالى { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي لذي عقل ولب وحجا ودين ، وإنما سمي العقل حجراً لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، ومنه حجر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي ، ومنه حجر اليمامة ، وحجر الحاكم على فلان ، إذا منعه التصرف ، { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } الفرقان 22 كل هذا من قبيل واحد ، ومعنى متقارب ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة ، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له ، الخائفون منه المتواضعون لديه ، الخاضعون لوجهه الكريم ، ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم ، قال بعده { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } ؟ وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته ، مكذبين لرسله ، جاحدين لكتبه ، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم ، وجعلهم أحاديث وعبراً ، فقال { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } ؟ وهؤلاء عاد الأولى ، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق ، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام ، فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ، ومن آمن معه منهم ، وأهلكهم { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } الحاقة 6 ــــ 8 وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون ، فقوله تعالى { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } عطف بيان زيادة تعريف بهم . وقوله تعالى { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة ، وأقواهم بطشاً ، ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة ، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ، فقال { وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الأعراف 69 وقال تعالى { فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } فصلت 15 وقال ههنا { ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ } أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم . قال مجاهد إرم أمة قديمة ، يعني عاداً الأولى ، قال قتادة بن دعامة والسدي إن إرم بيت مملكة عاد ، وهذا قول حسن جيد وقوي ، وقال مجاهد وقتادة والكلبي في قوله { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } كانوا أهل عمد لا يقيمون ، وقال العوفي عن ابن عباس إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم ، واختار الأول ابن جرير ، ورد الثاني فأصاب . وقوله تعالى { ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ } أعاد ابن زيد الضمير على العماد لارتفاعها ، وقال بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد ، وأما قتادة وابن جرير ، فأعاد الضمير على القبيلة ، أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد ، يعني في زمانهم ، وهذا القول هو الصواب ، وقول ابن زيد ، ومن ذهب مذهبه ، ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك ، لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد ، وإنما قال { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ } . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه عن المقدام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد ، فقال " كان الرجل منهم يأتي على الصخرة ، فيحملها على الحي ، فيهلكهم " ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا أنس بن عياض ، عن ثور بن زيد الديلي قال قرأت كتاباً ، وقد سمى حيث قرأه أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد ، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع ، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلمقلت فعلى كل قول ، سواء كانت العماد أبنية بنوها ، أو أعمدة بيوتهم للبدو ، أو سلاحاً يقاتلون به ، أو طول واحد منهم ، فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع ، المقرونون بثمود كما ههنا ، والله أعلم . ومن زعم أن المراد بقوله { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } مدينة ، إما دمشق كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، أو إسكندرية كما روي عن القرظي ، أو غيرهما ، ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } إن جعل ذلك بدلاً ، أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم . وإنما نبهت على ذلك ، لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد ، مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها ، وأن حصباءها لآلىء وجواهر ، وترابها بنادق المسك ، وأنهارها سارحة ، وثمارها ساقطة ، ودورها لا أنيس بها ، وسورها وأبوابها تصفر ، ليس بها داع ولا مجيب ، وأنها تتنقل ، فتارة تكون بأرض الشام ، وتارة باليمن ، وتارة بالعراق ، وتارة بغير ذلك من البلاد ، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين ، من وضع بعض زنادقتهم ، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك . وذكر الثعلبي وغيره أن رجلاً من الأعراب ، وهو عبد الله بن قلابة ، في زمان معاوية ، ذهب في طلب أباعر له شردت ، فبينما هو يتيه في ابتغائها ، إذ اطلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب ، فدخلها ، فوجد فيها قريباً مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها ، وأنه رجع فأخبر الناس ، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال ، فلم يروا شيئاً . وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة إرم ذات العماد ههنا مطولة جداً ، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي ، فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيّلين من وجود مطالب تحت الأرض ، فيها قناطير الذهب والفضة ، وألوان الجواهر واليواقيت واللآلىء والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها ، والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم ، والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية ، وكنوزاً كثيرة ، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله ، فأما على الصفة التي زعموها ، فكذب وافتراء وبهت ، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون ، إلا عن نقلهم ، أو نقل من أخذ عنهم ، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب . وقول ابن جرير يحتمل أن يكون المراد بقوله { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك لم تصرف ، فيه نظر لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } يعني يقطعون الصخر بالوادي ، قال ابن عباس ينحتونها ويخرقونها ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ، ومنه يقال مجتابي النمار ، إذا خرقوها ، واجتاب الثوب ، إذا فتحه ، ومنه الجيب أيضاً ، وقال الله تعالى { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَـٰرِهِينَ } الشعراء 149 ، وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا قول الشاعر @ ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللّهَ بائِدُ كما بادَ حَيٌّ من شَنيفٍ ومارِدِ هُمُ ضَرَبوا في كُلِّ صَمّاءَ صَعْدَةٍ بأيدٍ شدادٍ أيِّداتِ السَّواعِدِ @@ وقال ابن إسحاق كانوا عرباً ، وكان منزلهم بوادي القرى ، وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته . وقوله تعالى { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } قال العوفي عن ابن عباس الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره ، ويقال كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها ، وكذا قال مجاهد كان يوتد الناس بالأوتاد ، وهكذا قال سعيد بن جبير والحسن والسدي . قال السدي كان يربط الرجل في كل قائمة من قوائمه في وتد ، ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فيشدخه ، وقال قتادة بلغنا أنه كان له مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال ، وقال ثابت البناني عن أبي رافع قيل لفرعون ذي الأوتاد لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت . وقوله تعالى { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } أي تمردوا وعتوا ، وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي أنزل عليهم رجزاً من السماء ، وأحل بهم عقوبة ، لا يردها عن القوم المجرمين . وقوله تعالى { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } قال ابن عباس يسمع ويرى ، يعني يرصد خلقه فيما يعملون ، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه ، فيحكم فيهم بعدله ، ويقابل كلاً بما يستحقه ، وهو المنزه عن الظلم والجور . وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً ، وفي إسناده نظر ، وفي صحته ، فقال حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة البيساني ، عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يا معاذ إن المؤمن لا يسكن روعه ، ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره ، يا معاذ إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته ، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عز وجل ، فالقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والصلاة كهفه ، والصوم جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق أميره ، والحياء وزيره ، وربه عز وجل من وراء ذلك كله بالمرصاد " . قال ابن أبي حاتم يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان ، وأبو حمزة عن معاذ مرسل . ولو كان عن أبي حمزة ، لكان حسناً ، أي لو كان من كلامه ، لكان حسناً ، ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع عن ابن عبد الكلاعي أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول إن لجهنم سبع قناطر ، قال والصراط عليهن ، قال فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى ، فيقول { قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } الصافات 24 قال فيحاسبون على الصلاة ، ويسألون عنها ، قال فيهلك فيها من هلك ، وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثانية ، حوسبوا على الأمانة كيف أدوها ، وكيف خانوها ، قال فيهلك من هلك ، وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثالثة ، سئلوا عن الرحم كيف وصلوها ، وكيف قطعوها ، قال فيهلك من هلك ، وينجو من نجا ، قال والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى في جهنم تقول اللهم من وصلني فصله ، ومن قطعني فاقطعه ، قال وهي التي يقول الله عز وجل { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } هكذا أورد هذا الأثر ، ولم يذكر تمامه .