Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 84-93)
Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف ، فأعرض عنهم { وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ } يا حزني { عَلَى يُوسُفَ } وقال مجاهد : يا جزعاه ، والأسف : شدّة الحزن والندم . { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ } مقاتل : لم يُبصر بهما ستّ سنين { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي مكظوم مملوء من الحزن ، ممسك عليه لا يبثّه ، ومنه كظم الغيظ ، عطاء الخراساني : كظيم : حزين ، مجاهد : مكبود ، الضحّاك : كميد ، قتادة : تردّد حزنه في جوفه ، ولم يتكلّم بسوء ، ولم يتكلّم إلاّ خيراً ، ابن زيد : بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم ، ابن عباس : مهموم ، مقاتل : مكروب ، وكلّها متقاربة . سعيد بن جبير : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يعط أُمّة من الأمم إنّا لله وإنّا إليه راجعون عند المصيبة إلاّ أُمّة محمّد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع : إنّما قال يا أسفى على يوسف ؟ " . وأخبرني ابن فنجويه [ قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ] القطيعي قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد ابن حنبل ، [ قال : حدّثني ] أُبي ، عن هشام [ بن القاسم ] عن الحسن ، قال : كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّاً لا تجف عينا يعقوب ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . { قَالُواْ } يعني ولد يعقوب { تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي لا تزال تذكر يوسف ، لا تفتر من حبّه ، يقال : ما فتِئتُ أقول ذلك ، وما فتأتُ أو أفتؤ ، فتأً وفتوّاً ، قال أوس بن حجر : @ فما فتِئتْ حيّ كأن غبارها سرادق يوم ذي رياج ترفع @@ وقال آخر : @ فما فتئت خيل تثوب وتدّعي ويلحق منها لاحق وتقطع @@ أي فما زالت . وحذف ( لا ) قوله فتئ كقول امرئ القيس : @ فقلتُ يمين الله أبرحُ قاعداً ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي @@ أي : لا أبرح . وقال خداش بن زهير : @ وأبرحُ ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقاً مجيداً @@ أي لا أبرح ومثله كثير . { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } اختلف ألفاظ المفسّرين فيه ، فقال ابن عباس : دنفاً ، العوفي : يعني الهد في المرض ، مجاهد : هو ما دون الموت ، يعني قريباً من الموت ، قتادة : هرِماً ، الضحّاك : بالياً مدبراً ، ابن اسحاق : فاسداً لا عمل لك ، ابن زيد : الحرض : الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل ، الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم ، مقاتل : مُدنفاً ، الكسائي : الحرض : الفاسد الذي لا خير فيه ، الأخفش : يعني ذاهباً ، المُخرج : ذائباً من الهمّ ، الفرّاء عن بعضهم : ضعيفاً لا حراك بك ، الحسن : كالشنّ المدقوق المكسور ، علام تعباً مُضنى ، ابن الأنباري : هالكاً فاسداً ، القتيبي : ساقطاً ، وكلّها متقاربة . ومعنى الآية : حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، ومنه قول العَرجي : @ إنّي امرؤ لجّ بي حبٌّ فأحرضني حتى بليتُ وحتى شفني السقم @@ يُقال : منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض ، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع ، والمذكّر والمؤنّث ، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم ، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأُنثى حارضة ، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث ، ويُقال : حرض ، يحرّض ، حرضاً وحراضة فهو حرض ، ويُقال : رجل محرّض وأنشد في ذلك : @ طلبته الخيل يوماً كاملا ولو آلفته لأضحى مُحرضاً @@ وقال امرؤ القيس : @ أرى المرءَ ذا الأذواد يُصبح مُحرضاً كإحراض بكر في الدّيار مريض @@ { أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } أي الميّتين ، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم ، { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } لا إليكم ، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مُصاب يوسف ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي ، قال : فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله . وقال حبيب بن أبي ثابت : بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه ، وكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني ، فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي . وعن عبدالله بن قميط ، قال : سمعت أبي يقول : بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب ( عليه السلام ) : ما الذي أذهب بصرك ؟ قال : حزني على يوسف ، قال : فما الذي قوّس ظهرك ؟ قال : حزني على أخيه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا يعقوب أتشكوني ؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما ، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئاً ، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين ، فاصنع طعاماً وادعُ إليه المساكين ، فصنع طعاماً ، ثمّ قال : من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب . وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه ، قالا : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين ؟ قال : لا إلهي ، قال : لأ نّك شويت عتاقاً وقترت على جارك ، وأكلت ولم تطعمه ، ويقال : إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف ، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها ، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها ، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده . وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن ، فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق ؟ قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة ، قال : فإنّي رسول ربّ العالمين ، وأنا الروح الأمين ، قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين ، ورأس المقرّبين ، وأمين ربّ العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين ، وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين ، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين ؟ قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المُذنبين ، سمّيت باسم المفسدين ؟ قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين ، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين ، قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين ؟ قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم ، قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل ؟ قال : أجر مائة شهيد ، قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم ، فطابت نفس يوسف ، قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته . وأمّا قوله بثّي فالبثّ : أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره ، يقال : بثّ ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ [ يأبثه أبثاً ] يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة : @ وقفتُ على ربع لميّة ناقتي فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه تكلّمني أحجاره وملاعبه @@ وقال الحسن : بثّي أي حاجتي ، وقال محمّد بن القاسم الأنباري : البثّ : التفرق ، وقال محمّد بن إسحاق : معناه : إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله ، وهو من بثّ الحديث . { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال ابن عباس : يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له ، وقال آخرون : وأعلم أنّ يوسف حيّ . قال السدّي : لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال : لعلّه يوسف ، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا والله ، وهو حيّ . ويقال : أرسل الله إليه ذئباً فسلّم عليه وكلّمه ، فقال له يعقوب : أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي ؟ قال : قد والله علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام ، فلذلك قال لبنيه : { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } ولا تيأسوا من روح الله سيروا واطلبوا الخبر ، من يوسف وأخيه : وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتبّعوا ، قال ابن عباس : إلتمسوا ، { وَلاَ تَيْأَسُواْ } ، أي لا تقنطوا ، من روح الله : من فرج الله ، قال ابن زيد وقتادة ، والضحّاك : من رحمة الله ، { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } . يُقال : سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال : لا يبعد أحدهما عن الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ ، الحسن وقتادة : ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلاّ أتى حسن ظنّه بالله من ورائه ، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار ، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطّلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال داود : [ إلهي ] أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً : فقال : لست هناك ، إنّ ابراهيم لم يَعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني ، وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه ، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف " . { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقديره : فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف ، فقالوا له : يا أيّها العزيز ، يا أيّها الملك بلغة حمير ، { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } الشدّة والجوع { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } قليلة ، رديئة ناقصة ، كاسدة . لا تنفق في شيء من الطعام إلاّ [ يتوجبن ] من البائع فيها ، وأصل الإزجاء السوق والدفع ، قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] قال النابغة الذبياني : @ وهبّت الريحُ من تلقاء ذي أزل تُزجي مع الليلِ من صَرّادها صرما @@ وقال حاتم الطائي : @ لَيبكِ على مَلِحان ضيفٌ مُدَفَّعٌ وأرمَلةٌ تُزجي مع الليلِ أَرملا @@ وإنّما قيل للبضاعة : مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزاً على دفع من أخذها . وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون . واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي ؟ عكرمة عن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفاً لا تنفق إلاّ بوضيعه بإذن عنه ، يعني لا تنفق في الطعام ؛ لأنّه لا يُؤخذ في ثمن الطعام إلاّ الجيّد ، ابن أبي مليكة : حبل خِلق الغرارة والحبل ورثة المتاع ، عبدالله بن الحرث : متاع الأعراب ، الصوف والسّمن ، الكلبي ومقاتل وابن حيّان : الصنوبر وحبّة خضراء ، سعيد بن جبير : دراهم [ قليلة ] ، ابن اسحاق : قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلاّ أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ ، جويبر عن الضحّاك : النعال والأدم ، ورويَ عنه أنّها سويق المقل . { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ } أي أعطنا بها ما كنت تُعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء . ولا تنقصنا من السعر ، هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال ابن جريج والضحّاك : تصدّق علينا بردّ أخينا إلينا . { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } قال الضحّاك : لم يقولوا : إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن ، قال عبدالجبار بن العلاء : سُئِلَ سفيان بن عُيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال سفيان : ألم تسمع قوله : { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حُرّمت على نبيّنا صلى الله عليه وسلم وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول : اللهمّ تصدّق عليّ ، فقال : يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب ، قل : اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ . { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول ، فقال ابن اسحاق : ذُكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } . وقال الكلبي : إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه : أنّ مالك بن أذعر قال : إنّي وجدت غلاماً في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال : أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه ، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم ، فولّى يهوذا وهو يقول : كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذاً لو قتل بنوه كّلهم ، ثمّ قالوا : إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا ، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول . وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له : إنّ ابنك سرق ، كتب إليه : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء ، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه ، ليُقتل ، ففداه الله ، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخاً بالدم وقالوا : قد أكله الذئب وذهب [ … ] ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّة وكنت أتسّلى به ، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا : إنّه سرق ، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل السابع من ولدك ، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك . وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين : هل لك ولد ؟ قال : نعم ، ثلاثة بنين ، قال : فما سمّيتهم ؟ قال : سمّيتُ الأكبر يوسف قال : ولِمِ ؟ قال : محبّة لك ، لأذكرك به ، قال : فما سمّيت الثاني ؟ قال : ذئباً ، قال : ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر ؟ قال : لأذكرك به ، قال : فما سمّيت الثالث ؟ قال : دماء ، قال : ولمَ ؟ قال لأذكرك به ، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة ، ولم يتمالك ، فقال لإخوته : لمّا دخلوا عليه : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون ، بما يؤول إليه أمر يوسف . وقيل : يكون المذنب جاهل وقت ذنبه . قال ابن عباس : إذا أنتم صبيّان ، الحسن : شبان وهذا غيرُ بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب . فإنّ سئل عن معنى قول يوسف { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه ، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع [ حبس ] وقالوا : ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه ، فعاتبهم يوسف على ذلك . وقيل : إنّهما لمّا كانا من أُمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فَقْد يوسف فعاتبهم على ذلك . { قَالُوۤاْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } : قرأ ابن مُحصن وابن كثير : إنّك على الخبر ، وقرأ الآخرون على الاستفهام ، ودليلهم قراءة أُبي بن كعب أو أنت يوسف ، قال ابن أسحاق : لمّا قال يوسف لأخوته { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } الآية ، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه ، فقالوا : إنّك لأنت يوسف ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس ، قال : قال يوسف : هل علمتم ما فعلتم بيوسف ؟ ثمّ تبسّم ، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم ، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف ، فقالوا له استفهاماً : إنّك لأنت يوسف ؟ ، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال : إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه ، وكان في قرنه علامة ، وكان ليعقوب مثلها ، وكان لإسحاق مثلها ، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء ، فلمّا قال لهم : [ هل ] علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ورفع التاج عنه ، فعرفوه فقالوا : إنّك لأنت يوسف . { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ } بأن جمع بيننا بعدما فرّقتم { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ } بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، ويصبر عمّا حرّم الله عليه ، قال ابن عباس : يتّق الزنا ويصبر على العزوبة ، مجاهد : يتّق معصية الله ويصبر على السجن { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } ، ف { قَالُواْ } مُقرّين مُعتذرين : { تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والمُلك { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } وإن كنّا في صنيعنا بك لمخطئين ، مذنبين ، يُقال : خطئ ، يخطأ ، خطأ وخِطأ وأخطأ إذا أذنب ، قال أُمّية بن الأكسر : @ وإنّ مهاجرين تكنَّفاهُ لعمرُ الله قد خطئا وخابا @@ وقيل لابن عباس : كيف قالوا : إنّا كنّا خاطئين وقد تعمّدوا لذلك ؟ فقال : أخطأوا الحقّ وإن تعمّدوا ، وكلّ من أتى ذنباً كذلك يُخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية ف { قَالَ } يوسف وكان حليماً موفّقاً : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } لا تعيير ولا تأنيب عليكم ، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم ، وأصل التثريب : الإفساد ، وهي لغة أهل الحجاز ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا زَنَت أَمَة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرب عليها " أي لا يُعيّرها ، ثمّ دعا لهم يوسف وقال : { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } . عطاء عن ابن عباس قال : " أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت ، وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثمّ قال : " ما تظنون ؟ " قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، قال : " وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم " " . قال السدي وغيره : فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل ؟ قالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه وقال لهم : { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } يعود مُبصراً ، لأنّه كان دُعاء . قال الضحاك : كان ذلك القميص من نسج الجنّة ، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال : كان يوسف أعلم بالله عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره ، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عزّ وجل في النار من حرير الجنّة ، وكان كساه إسحاق ، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب ، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين ، ثمّ أمره جبرئيل ( عليه السلام ) أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلاّ صحّ وعوفي . { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } .