Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 1-10)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } قراءة العامة بالرفع : هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة ، هذا قول الخليل ، وقال الأخفش : سورة ابتداء وخبره في أنزلناها ، وقرأ طلحة بن مصرف : سورةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة ، والكناية صلة زائدة ، وقيل : اتّبعوا سورة أنزلناها { وَفَرَضْنَاهَا } أي أوجبنا ما فيها من الأحكام ، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو : وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها ، وقيل : هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة ، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة ، وتصديق التخفيف قوله سبحانه { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ } [ القصص : 85 ] . { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( * ) ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي } إذا كانا حُرّين بالغين بكرين غير محصنين { فَٱجْلِدُواْ } فاضربوا { كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } رحمة ورقّة . قال الأخفش : رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات : رأفة ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة ، وهي قراءة العامة ، ورأَفة بفتح الهمزة ، ورآفة مهموزة ممدودة مثل الكتابة ، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة ، وقيل : القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلةً ، وقبح قباحة ، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات . واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم : ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلّوا الحدود ولا تقيموها . روى المعمّر عن عمران قال : قلت لأبي مخلد في هذه الآية : واللّه إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال : إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار ، يدلّ عليه من الآية أنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالجلد ، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلاّ ينكأ ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم . وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد : اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها ، قلت : فأين قول الله سبحانه { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } ؟ قال : أفأقتلها ؟ إنَّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها . وقال الآخرون : بل معناها ولا يأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضرباً ، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن . قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب . وقال قتادة : يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا . وقال حمّاد : يُحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما ، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه ، وتلا هذه الآية . { فِي دِينِ ٱللَّهِ } أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } [ يوسف : 76 ] . { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } وليحضر حدّيهما إذا أُقيم عليهما { طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد : أقلّه رجل واحد فما فوقه ، واحتجّا بقوله { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] الآية . عطاء وعكرمة : رجلان فصاعداً ، الزهري : ثلاثة فصاعداً ، ابن زيد : أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى ، قتادة : نفر من المسلمين . روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال : أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا ، فألقى عليها ثوباً وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضرباً غير مبرح ، ودعا جماعة ثم قرأ { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . أخبرني ابن فنجويه قال : حدَّثنا أبو علي بن حنش المقري قال : حدَّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال : حدَّثنا إبراهيم بن نصره قال : حدَّثنا مسدّد قال : حدَّثنا إسماعيل قال : حدَّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال : إِقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة . وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال : حدَّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال : أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال : أخبرني محمد بن شعيب قال : أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنَّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار " " . وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال : حدَّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال : حدّثنا عطية بن بقية قال : حدَّثنا أبي قال : حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ أعمال أُمَتي تُعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة " . وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدَّثنا إبراهيم بن يزيد الحرّاني قال : حدَّثنا المغيرة ابن سقلاب قال : حدَّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال : مكتوب في التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقوّاد لا يموت حتى يعمى . { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } الآية . اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون ، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا : إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية وحُرَّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك ، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات ، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] وقوله سبحانه وتعالى { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] يعني ينبغي أن تكون كذلك ، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس . وقال عكرمة : نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات ، لهن رايات كرايات البيطار يُعرفن بها : أُمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأُم عليط جارية صفوان بن أُمّية ، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل ، ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق ، وحلالة جارية سهيل بن عمرو ، وأُم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي ، وسريفة جارية زمعة بن الاسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة ، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر ، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية ، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلاّ زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها ماكله ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمهُ عليهم . وقال عمرو بن شعيب : نزلت في مرثد الغنوي وعناق ، وكان مرثد رجلا شديداً وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عناق صديقته في الجاهلية ، فلمّا أتى مكه دعته عناق الى نفسها فقال مرثد : إنَّ الله حرَّم الزنا قالت : فأنكحني فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقد مضت القصة في سورة البقرة . وقال آخرون : أراد بالنكاح ههنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلاّ بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك ، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرَّحْمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدَّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السُني قال : أخبرني محمد بن عمران قال : حدَّثنا سعيد بن عبد الرَّحْمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا : حدَّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : الزاني لا ينكح إلا زانية قال : ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع ، لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك ، فكنّى . وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدَّثنا أبو علي بن حبش قال : حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال : حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال : قال لنا يزيد بن هارون : هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك ، وإن جامعها وهو محرم فهو زان . وقال بعضهم : كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم ، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال : حدَّثنا ابن شيبة قال : حدَّثنا الفريابي قال : حدَّثنا قتيبة قال : حدَّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال : يزعمون أن تلك الآية { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } نسخت بالآية التي بعدها { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } فدخلت الزانية في أيامى المسلمين . وقال الحسن : معناها المجلود لا ينكح إلاّ مجلودة . { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } أي يشتمون المسلمات الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ } على ما رموهن به { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك { فَٱجْلِدُوهُمْ } يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم { ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } . ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم : هو استثناء من قوله { لاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } وقالوا : إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حُد فيه أو لم يحدّ ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك ، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي . واختلفوا في كيفيّة توبته ، فقال بعضهم : هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه ، وقال آخرون : هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي ، فإذا أُقيم عليه الحدّأو عفا المقذوف عنه سقط الحد ، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد ، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد ، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يُحَدّ لأجل هذه ، أو حُدّ ثم تاب أصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته ، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة و شبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدَّهم ثمَّ قال لهم : من أكذب نفسه أجزتُ شهادته فيما استقبل ، ومن لم يفعل لم أُجز شهادته ، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا ، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته . وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال : شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل . وقال آخرون : هذا الاستثناء راجع الى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } فأمّا قوله { لاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً } فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبداً ، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه . روى الأشعث عن الشعبي قال : جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح ، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه : أتجيز شهادته عليَّ وهو أقطع ؟ فقال شريح : كلّ صاحب حدّ إذا أُقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلاّ القاذف ، فإنّه قضاء من اللّه أن لا تقبل شهادته أبداً وإنّما توبته فيما بينه وبين الله . { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي يقذفونهنّ بالزنا . { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ } يشهدون على صحة ما قالوا . { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات . { وَٱلْخَامِسَةُ } يعني والشهادة الخامسة ، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن . وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة . وقرأ نافع ويعقوب وأيوب : إن وأن خفيفتين ، لعنة وغضب مرفوعين ، وهي رواية المفضل عن عاصم ، وقرأ الباقون : بتشديد النونين وما بعدهما نصب . { إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ ( * ) وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } ويدفع عن الزوجة الحد . { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ } يعني الزوج { لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } . { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } قرأ نافع : غضب الله مثل سمع الله على الفعل ، الباقون على الإسم . { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة . فأما سبب نزول الآية ، فروى عكرمة عن ابن عباس قال : " لمّا نزلت { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الآية ، قال سعد بن عبادة : والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أُحركّه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، فإن قلت ما رأيت ، إنّ في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم " ؟ قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلاّ بكراً و لا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها . فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك " ، فقال : صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أُميّة من حديقة له ، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح ، فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال : يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي ، رأيت بعيني وسمعت بأُذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدّاً حتى عرف ذلك في وجهه . فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم أني صادق وما قلت إلاّ حقّاً وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجاً ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه . قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، أيُجلد هلال وتبطل شهادته ؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنَّ الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله سبحانه { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } إلى آخر الآيات . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجاً " ، فقال : قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " ، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها ، فكذّبت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ " . فقال هلال : يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقتُ وما قلتُ إلاّ حقّاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعنوا بينهما " ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين ، فقيل له عند الخامسة : يا هلال اتّق الله فإنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قال للمرأة : اشهدي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن جاءت به كذا وكذا ) فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا ) فهو للذي قيل فيه " . قال : فجاءت به غلاماً كأنه حمل أورق على الشبه المكروه ، وكان بعد أميراً بمصر لا يدرى من أبوه . وأخبرنا محمد بن عبدوس قال : أخبرنا محمد بن الحسن قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : " لمّا نزلت { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } الآية ، قال سعد بن عبادة : يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه ، وإن أخبر بما رأى جُلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالسيف شا … ، قال : أراد أن يقول شاهداً ثمَّ أمسك وقال : لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران ، وذكر الحديث . " وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل : " لمّا نزلت { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } الآية ، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك إنْ رأى رجل منّا مع إمرأته رجلا فأخبر بما رأى جُلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقاً ولا تقبل شهادته أبداً ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرَّ ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأُخرى فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك ؟ قال : أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة ، وكان عويمر وخولة وشريك كلّهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعاً فقال لعويمر : " اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان ، فقال : يا رسول الله أُقسم بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة اشهر وانها حبلى من غيري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة : " اتقي الله ولا تخبري إلاّ بما صنعت " ، فقالت : يا رسول الله إنَّ عويمراً رجل غيور ، وإنه رآني وشريكاً نطيل السَمَرَ ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك : " ما تقول " ؟ قال : ما تقوله المرأة ، فأنزل الله سبحانه { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي : الصلاة جامعة ، فصلّى العصر ثمَّ قال لعويمر : قم فقام فقال : أشهد بالله إنَّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين ، ثمَّ قال في الرابعة : أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمَّ قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال . ثمَّ أمره بالقعود وقال لخولة : قومي فقامت فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمراً لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الثانية : أشهد بالله إنه ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الثالثة : أشهد بالله إني حبلى منه وإنّه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الخامسة : غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : " لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأيٌ ، ثمَّ قال : تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأُصيهب أُثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء ، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به " " . قال ابن عباس : فجاءت بأشبه خلق الله بشريك . ذكر حكم الآية إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان ، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان ، فإن التعنت وإلاّ لزمها الحدّ ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها ، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حراً كان أو عبداً ، مسلماً كان أو كافرا ، فكلُّ مَن صحّت يمينه صحَّ قذفه ولعانه . وقال أهل العراق : اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلاّ عند الحاكم أو خليفته ، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ ، والمكان ، والوقت ، وجمع الناس . فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة ، وقد مضت كيفية ذلك ، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة ، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه . وأما الوقت ، فإنّه بعد صلاة العصر . وأمّا العدد ، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والمكان والزمان مستحبّان ، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان أربعة أحكام : سقوط الحدّ ، ونفي الولد ، وزوال الفراش ، ووقوع التحريم المؤبّد ، وكلّ هذا يتعلّق بلعان الزوج ، فأمّا لعان المرأة فإنه يسقط به الحدّ فقط ، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا عود ماله في الحدّ والنسب عليه فيعودان . وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان ، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة . وقال أبو حنيفة وسفيان : اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءاً ، والله أعلم .