Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 146-155)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ } . قرأ الحسن وأبو جعفر : ( كاين ) مقصوراً بغير همزة ولا تشديد حيث وقع . وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة : ( وكأين ) مهموزاً ممدوداً مخففاً على وزن فاعل ، وهو اختيار أبي عبيد ، اعتباراً بقول أُبي بن كعب لزر بن حبيش : ( كاين ) بعد سورة الأحزاب . فقال : كذا آية . وقرأ ابن محيصن : ( كأي ) ممدوداً بغير نون . وقرأ الباقون : ( وكأيّن ) مشدوداً بوزن كعَيّن ، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم ، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد . وأنشد المفضل : @ وكائن ترى في الحي من ذي صداقة و غيران يدعو ويله من حذاريا @@ وقال في التشديد : @ كأين من أناس لم يزالوا أخوهم فوقهم وهم كرام @@ وجمع الآخر بين اللغتين ، فقال : @ كأين أبدنا من عدوّ يغزنا وكأين أجرنا من ضعيف وخائف @@ ومعناه كم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام ، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلاّ في هذا الحرف خاصة . { قُتل } . قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ( قتل ) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم . وقرأ الآخرون : ( قاتل ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد ، فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : { فَمَا وَهَنُواْ } ويستحيل وصفهم بأنهم لم يُهنوا بعدما قُتلوا ، ولقول سعيد بن جبير : ما سمعنا أن نبياً قط قُتل في القتال . وقال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قُتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم ، فقاتل أعم . ومن قرأ ( قتل ) فله ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون القتل واقعاً على النبي وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة ( قتل ) فيكون في الآية اضمار معناه ومعه { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } كما يقال : قتل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه ، ويقول : خرجت معي تجارة ، أي ومعي . والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين ، ويكون وجه الكلام : قتل بعض من كان معه ، تقول العرب : قتلنا بني تميم وبني فلان ، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } راجعاً إلى الباقين الذين لم يقتلوا . والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير . { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة : ( رُبيون ) بضم الراء ، وهي لغة بني تميم . الباقون : بالكسر ، وهي اللغة الفاشية [ العالية ] . والربيون جمع الربّية وهي الفرقة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع . السدي : جموع كثير . قال حسان : @ وإذا معشر تجافوا عن الحق حملنا عليهم رُبيا @@ ابن مسعود : الربيون الألوف ، الضحاك : الربية الواحدة ألف ، الكلبي : الربية الواحدة عشر ألف ، الحسن : فقهاً علماً صبراً ، ابن زيد : هم الأتباع ، والرابيون : هم الولاة ، والربيون : الرعية ، وقال بعضهم : هم الذين يعبدون الرب ، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته كما يقول بصريٌّ منسوب إلى بصرة ، فكذلك ربيّون منسوب إلى الربّ ، وقال بعضهم : مطيعون منيبون إلى الله فما وهنوا . قرأه العامة : بفتح الهاء ، وقرأ قعتب أبو السماك العدوي : بكسر الهاء ، فمن فتحه فهو من وَهن يهن وهناً ، مثل وعد يعِد وعداً ، قاله المبرد وأنشد : @ إن القداح إذا اجتمعن فرامَها بالكسر ذو جَلد وبطش أيد عزّت ولم تكسر وإن هي بددت قالوهن والتكسير للمتبدد @@ ومن كسر فهو من وَهِن يهن ، مثل وَرِم يرم قاله أبو حاتم . فقال الكسائي : هو من وهن يوهن وهناً ، مثل وجل يوجل وجلاً . قال الشاعر : @ طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن @@ ومعنى الآية : فما ضعفوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح ، وقيل : الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم . قال قتادة والربيع : يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله ، السدي : وما ذلّوا ، عطاء : وما تضرّعوا ، مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ، أبو العالية : وما جبنوا ، المفضل والقتيبي : وما خشعوا ، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه ، مثل مِعطير من العِطر ومنديل من الندل ، وهو دفعه من واحد إلى آخر ، وأصل الندل السوق ، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم . { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } . قرأ الحسن وابن أبي إسحاق : ( قولهم ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله : إن قالوا . وقرأ الباقون : بالنصب على خبر كان والاسم في أن ، قالوا تقديره : وما كان قولهم إلاّ قولهم كقوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } [ الأعراف : 82 ] و { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } [ الجاثية : 25 ] ونحوهما ، ومعنى الآية : وما كان قولهم عند قتل نبيّهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا } يعني خطايانا الكبار ، وأصله مجاوزة الحد { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } كيلا تزول { وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } فهلاّ فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ } ، وقرأ الجحدري : فأثابهم الله من الثواب ، { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } النصرة والغنيمة { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ } الأجر والجنة { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني اليهود والنصارى ، فقال علي ( رضي الله عنه ) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ، { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } فتنقلبوا مغبونين ثم قال { بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } ناصركم وحافظكم على دينكم { وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي } . قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد وتركناهم رجعوا . فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به . وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها . { سَنُلْقِي } قرأ أيوب السختياني : سنلقي بالله يعني الله عزّ وجلّ لقوله : { بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } ، قرأ الباقون : بالنون على التعظيم أي سنقذف ، { فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } الخوف وثقل عينه ، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون . { بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ } هو ( ما ) المصدر ، تقديره باشراكهم بالله { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } حجة وبياناً وعذراً وبرهاناً ، ثم أخبر عن مصيرهم فقال : { وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ } مقام الكافرين . { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } ، قال محمد بن كعب القرظي : " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وقد أصابهم ما أصابهم بأُحد ، فقال ناس من أصحابه : من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } الذي وعد بالنصر والظفر ، وهو قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } الآية ، وقول رسول الله للرماة : " لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم " ، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما ، { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أُحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : " احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " " . وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال ، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين ، فذلك قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } أي تقتلونهم قتلا ذريعاً سريعاً شديداً . قال الشاعر : @ حسسناهم بالسيف حسّاً فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا @@ وقال أبو عبيدة : الحس الاستيصال بالقتل ، يقال : جراد محسوس إذا قتله البرد ، وسَنَة حسوس إذا أتت على كل شيء . قال روبة : @ إذا شكونا سنة حسوساً تأكل بعد الأخضر اليبيسا @@ { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } ، قال بعض أهل المعاني : يعني إلى أن فشلتم ، جعلوا ( حتى ) غاية بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب له . وقال الآخرون : هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا : وفي قوله : { وَتَنَازَعْتُمْ } مقحمة زائدة ، ونظم الآية : حتى إذا تنازعتم { فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ } وفشلتم أي جبنتم وضعفتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض ، وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هُزم المشركون وقالوا : انهزم القوم فما مقامنا ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون ، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صبا ، وانتفضت صفوف المسلمين ، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار ، فقتل بعضهم بعضاً وما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس ألا إن محمداً قد قتل ، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين . { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا . وقال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أُحد فنزلت هذه الآية { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي ردّكم عنهم بالهزيمة { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، قاله أكثر المفسرين ، ونظيره : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } [ البقرة : 52 ] . وقال الكلبي : يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم . { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ } يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين . قرأه العامة : ( تُصعِدون ) بضم التاء وكسر العين . وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء . وقرأ ابن محيصن وشبل : إذ يصعدون ويلوون بالياء ، يعني المؤمنين . ثم رجع إلى الخطاب فقال { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَاكُمْ } على البلوى . قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، والاصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب ، والصعود الإرتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج ، قال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب . قال الأعشى : @ إلاّ أيهذا السائلي أين أصعدت فإنّ لها من بطن يثرب موعدا @@ وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك ، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا . وأنشد أبو عبيدة : @ لقد كنت تبكين على الاصعاد فاليوم سرحت وصاح الحادي @@ ودليل قراءة العامة قول النبي صلى الله عليه وسلم للمنهزمين : " لقد ذهبتم فيها عريضة " . وقرأ أُبي بن كعب : إذ تصعدون في الوادي ، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد . وقال المفضل : صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد . { وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ } يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم ، لا يلتفت بعض إلى بعض هرباً . وقرأ الحسن : ولا يلوُن بواو واحدة اتباعاً للخط ، كقولك : استحببت واستحبت على أحد . قال الكلبي : يعني على محمد صلى الله عليه وسلم { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَاكُمْ } أي في آخركم ومن ورائكم إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة ، يقال : جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس واقرى الناس وأُخراة الناس وأُخريات الناس ، فجاز لكم جعل الأنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الانشقاق : 24 ] . قال الشاعر : @ أخاف زياداً أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا @@ يعني بالسود : القيود والسياط وكذلك معنى الآية ، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّاً بغمّ . قال الحسن : يعني بغم المشركين يوم بدر . وقال آخرون : الباء بمعنى على ، أي غمّاً على غمَ ، وقيل : غمّاً بغم ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة ، وقيل : الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين ، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : " أنا رسول الله " ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع ، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، ثم أشرف عليهم ، فلما نظر المسلمون إليهم ، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تُقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعاً . { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } من الفتح والغنيمة { وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } ( ما ) في موضع خفض أي : ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم ، وهمّكم ما أنتم فيه غماً قد أصابكم قبل . فقال الفضل : ( لا ) صلة معناه : لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه ، وترككم المركز كقوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] . { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ } ، روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم ، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلاّ كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، فأنزل الله تعالى { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ } يا معشر المؤمنين وأهل اليقين ، { أَمَنَةً } يعني أمناً ، وهي مصدر كالعظمة والغلبة ، وقرأ ابن محيصن : أمنة بسكون الميم . { نُّعَاساً } بدل من الأمنة { يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : ( تغشي ) بالتاء رداً إلى الأمنة ، وقرأ الباقون : بالياء رداً إلى النعاس ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد : لأن النعاس يلي الفعل ، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه . قال ابن عباس : آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام ، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر . روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أُحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلاّ وهو يميد تحت جُحفته من النعاس . قال أبو طلحة : وكنت ممّن أُلقي عليه النعاس يومئذ ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه ، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه . { طَآئِفَةً } يعني المنافقين ، وهب بن قشير وأصحابه ، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله : و { يَظُنُّونَ } { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي حملتهم على الهمّ ، يقال : أمر مهم ، ومنه قول العرب : همّك ما أهمّك . { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } أي لا ينصر محمداً ، وقيل : ظنوا أن محمداً قد قتل { ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } أي كظن أهل الجاهلية والشرك { يَقُولُونَ هَل لَّنَا } أي ما لنا ، لفظ استفهام ومعناه هل { مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } يعني النصر { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } . قرأ أبو عمرو ويعقوب : ( كلّه ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله : لله وصار هذا الابتداء والجملة خبراً لإنّ ، كما يقول : إن عبد الله وجهه حسن ، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانياً وحسن خبره ، وجملة الكلام خبر للإبتداء الأول . وقرأ الباقون : ( كله ) بالنصب على البدل ، وقيل : على النعت . وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } يعني به التكذيب بالقدر ، وذلك أنّهم يظنوا في القدر ، فقال الله عزّ وجلّ : { إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا ، فقال الله : قل لهم : { لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ } لخرج . وقال ابن أبي حيوة : ( لبُرّز ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول . { ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ } ، قرأ قتادة : القتال { إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } مصارعهم ، { وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ } ليختبر الله { مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ } يخرج ويطهّر { مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } بما في القلوب من خير أو شر { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ } انهزموا { مِنكُمْ } يا معشر المؤمنين { يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } جمع المسلمين والمشركين { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } . قال المفضل : حملهم على الزلل ، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة . وقال القتيبي : طلب زلتهم ، كما يقال : استعجلت عليها ، أي طلبت عجلته ، واستعجلته طلبت عمله ، وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد . وقال الكلبي : زيّن لهم الشيطان أعمالهم حينما كسبوا ، أي بشؤم ذنوبهم ، قال المفسرون : بتركهم المراكز ، وقال الحسن : ما كسبوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة . { وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } . وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري ، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدراً ؟ قال : لا ، قال : أكان شهد بيعة الرضوان ؟ قال : لا ، قال : أفكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان ؟ قال : نعم ، فقيل له : إن هذا يرى أنك قد عبته ، فقال : عليّ به ، أمّا بدر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له بسهمه ، وأما بيعة الرضوان فقد بايع [ له ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يد عثمان ، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [ فإن الله قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } ] فاذهب فاجهد عليّ جهدك .