Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 1-7)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير ، ومحمد بن مروان عن الكلبي ، وعبد اللّه بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس ، قالوا : نزلت هذه في وفد نجران ، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب ، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدَّرون عن رأيه ، واسمهُ عبد المسيح . والسيَّد ( عالمهم ) وصاحب رحلهم واسمه ( الأيْهم ويقال : شرحبيل ) وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرَّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم ، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ( وموّلوه وبنو له ) الكنائس لعلمه واجتهاده . فقدموا على رسول اللّه المدينة ودخلوا مسجدهُ حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد ، في جمال رجال بلحرث بن كعب ، يقول بعض مَن رآهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم : ما رأينا وفداً مثلهم ! وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلَّوا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم وصلَّوا الى المشرق . فكلَّم السيد والعاقب رسوال اللّه . فقال رسوال اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم : أسلمنا . قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ؛ يمنعكما من الإسلام ( ادَّعاءكما ) لله ولداً ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير . قالا : إن لم يكن ولد لله فمن ( أبيه ) وخاصموه جميعاً في عيسى عليه السلام ، فقال لهما النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( إنّه لا يكون ولد إلاّ وشبه أباه . قالوا : بلى ، قال : ألستم ) تعلمون أن ربَّنا حيٌ لا يموت وإنَّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى . قال : ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ قالوا : بلى . قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى . قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما عُلَّم ؟ قالوا : لا . قال : فإنّ ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون إنّ عيسى حملتهُ أمهُ كما تحمل المرأة ، ثم وضعتهُ كما تضع المرأة حملها ، ثم غذي كما يغذى الصبي ، وكان يُطعم ويشرب ويُحدث ، قالوا : بلى . قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا . فأنزل اللّه تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها . فقال عزَّ من قائل : { الۤمۤ } قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني { ا ل م } مفصولاً ، ومثلها جميع حروف التهجَّي المُفتح بها السور . وقرأ ابن جعفر الرواسي والاعشى والهرحمي : { الۤمۤ ٱللَّهُ } مقطوعاً والباقون موصولاً مفتوح الميم . فمن فتح الميم ووصل فله وجهان : قال البصريون : لإلتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات . وقال الكوفيون : كانت ساكنة ؛ لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة الى الميم . ومن قطع فلهُ وجهان : أحدهما : نية الوقف ثم قطع الهمزة للإبتداء ، كقول الشاعر : @ لتسمعنَّ وشيكاً في ديارهم اللّه أكبر يا ثاراث عثمانا @@ والثاني : أن يكون أجراه على لغة من يقطع ألف الوصل . كقول الشاعر : @ إذا جاوز الأثنين سرَّ فإنه بنت وتكثير الوشاة قمينُ @@ ومن فصل وقطع فللتفخيم والتعظيم تعالى { اللَّهِ } إبتداء وما بعده خبر ، { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } نعت له ، { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } قرأ إبراهيم بن أبي عبلة : نزل بتحفيف [ الزاي ] ، الكتاب : برفع الباء ، وقرأ الباقون : بتشديد الزاي ونصب الباء على التكثير ؛ لأنَّ القرآن كان ينزل نجوماً شيئاً بعد شيء والتنزيل يكون مرّة بعد مرَّة ، وقال : { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } ؛ لأنهما نزلتا دفعة نزل عليك يا محمد الكتاب القرآن { بِٱلْحَقِّ } : بالعدل ، والصدق ، { مُصَدِّقاً } : موافقاً { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } : لما قبله من الكتب في التوحيد ، والنبوَّات ، والأخبار ، وبعض الشرائع . { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } قال البصريون : أصلها وَوْديه دوجله وحرقله فحوَّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفاً فصارت توراة ، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة ، وقال الكوفيون : هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل ( توصية ) ، و ( توفية ) فقلبت الياء ألفاً كما يفعل طي ، فيقول للجارية : جاراة ، وللناصية : ناصاة ، وأصلها من قولهم : " وري الزند " إذا أخرجت ناره وأولته أنا ، قال اللّه عز وجل : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } [ الواقعة : 71 ] ، وقال : { فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً } [ العاديات : 2 ] فتسمى تورية ؛ لأنه نور وضياء دلَّ عليه قوله تعالى : { وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] قاله الفراء ، وأكثر العلماء ، وقال ( المؤرج : ) هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره . ومن الحديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم " إذا أراد شيئاً وري بغيره " . وكان أكثر التورية معارض وتلويحاً من غير إيضاح وتصريح ، وقيل : هي بالعبرانية " نوروثو " ومعناه : الشريعة . والإنجيل أفضل من ( النجل ) وهو الخروج ، ومنه سميَّ الولد " نجلاً " لخروجه . قال الأعشى : @ أنجب أزمان والداه به اذ نجَّلاه فنعم ما نجلا @@ فسمي بذلك ؛ لأن اللّه تعالى أخرج به دارساً من الحق عافياً . ويقال : هو من المتنجل ، وهو سعة الجن ، يقال : قطعنه نجلا أي : واسعة فسمي بذلك ؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نوراً وضياء ، وقيل : هو بالسريانية " انقليون " ومعناه : الشريعة : وقرأ الحسن الأنجيل بفتح الهمزة ، يصححه الباقون بالكسر مثل : الإكليل . { مِن قَبْلُ } رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } وقال زهير : @ وما كان من خير أتوه فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل @@ { هُدًى لِّلنَّاسِ } هاد لمن تبعه ، ولم ينته ؛ لأنَّه مصدر وهو في محل النصب على الحال والقطع . { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } الفرق بين الحق والباطل ، قال السدي : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنزل التوراة والانجيل والفرقان هدىً للمتقين . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } . { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } . { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } ذكراً وأنثى ، قصيراً وطويلاً ، أسوداً وأبيضاً ، حسناً وقبيحاً ، سعيداً وشقياً . { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } متقنات مبينات مفصلات . { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرَّغ لأهل الإسلام ، وهنَّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن ، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين ، ولا يختلف فيه أهل كل بلد . والعرب تسمي كلَّ شيء فاضل جامع يكون مرجعاً لقوم ، كما قيل للَّوح المحفوظ : أم الكتاب ، والفاتحة : أمُّ القرآن ، ولمكَّه : أمَّ القرى وللدماغ : أمُّ الرأس ، وللوالدة : أم ، وللراية : أم ، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال : أم ، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار : أم ، وكان عيسى ( عليه السلام ) يقول : " للماء هذا أبي " ، وللخبز : " هذه أُمَّي " ؛ لأنَّ قوام الأبدان بهما . وإنَّما قال أُمَّ الكتاب ولم يقل أُمَّهات الكتب ؛ لأنَّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام اللّه واحدٌ . وقيل : معناه كلمة واحدة فهُنَّ أُمَّ الكتاب كما قال : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] أي كل واحد منهما آية . { وَأُخَرُ } : جمع أخرى ولم يصرف ؛ لأنَّه معدول عن أواخر ، مثل عُمر ، وزفر وهو قاله الكسائي . وقيل : ترك أخراه ؛ لانَّه نعت مثل جُمع ، وكُسع لم يصرفا ؛ لأنَّهما نعتان . وقيل : لأنَّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف . { مُتَشَابِهَاتٌ } : تشبه بعضها بعضا ، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي : " المحكم : الناسخ الذي يُعمل له " . " والمتشابه : المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به ، هي رواية عطيه عن ابن عباس " . روى علي ابن أبي طلحة عنه قال : " محكمات القرآن ناسخة ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمر به ويعمل به " . والمتشابه : منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به . زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال : قال ابن عباس : قوله تعالى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } قال : هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] إلى آخر الآيات الثلاث ، نظيرها في سورة بني اسرائيل { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقال مجاهد ، وعكرمة : " المحكم : ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه ( يصدَّق ) بعضها بعضا " . قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : المحكم : مالا يُحتمل من التأويل غير وجه واحد . والمتشابه : ما أحتمل من التأويل أوجهاً . وقال ابن زبير : من المحكم ما ذكر اللّه تعالى في كتابه من قصص الانبياء ( عليهم السلام ) ، وفصلت وتنتهِ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمَّته ، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها ، وقصة هود في عشر آيات ، وقصّة صالح في ثمان آيات ، وقصة إبراهيم في ثمان آيات ، وقصة لوط في ثمان آيات ، وقصة شعيب في عشر آيات ، وقصة موسى في آيات كثيرة . وذكر ( آيات ) حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية . والمتشابه : هو ما اختلف به الالفاظ من قصصهم عند التكرير ، كما قال في موضع من قصة نوح : { قُلْنَا ٱحْمِلْ } [ هود : 40 ] وقال وفي موضع آخر : { فَٱسْلُكْ } [ المؤمنون : 27 ] . وقال في ذكر عصا موسى : { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [ طه : 20 ] ، وقال في موضع آخر : { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] ونحوها . وإن بعضهم قال : " المحكم : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه " . " والمتشابه : ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر اللّه بعلمه " وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدَّنيا ، ومحوها . وقال أبو فاختة : " المحكمات التي هنَّ أم الكتاب فواتح السور منها يستخرج القرآن { الۤمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 1 - 2 ] منها استخرجت البقرة ، و { الۤمۤ * ٱللَّهُ } [ آل عمران : 1 - 2 ] أستخرجت آل عمران . وقال ابن كيسان : " المحكمات حجتها واضحة ، ودلائلها لائحة ، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه ، بالنظر فيه يعرف العوَّام تفصيل الحق فيه من الباطل " . وقال بعضهم : " المحكم ما أجمع على تأويله ، والمتشابه ما ليس معناه واضح " . وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب . وقال الشعبي : رأيتُ في بعض التفاسير أنَّ المتشابه هو ( ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه ) محكم من وجه على معنى ( بشدَّة ) [ … ] ، قال اللّه تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] . والمتشابه من وجه فهو إنَّه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً . وقال ابن عبَّاس في رواية شاذان : المتشابه حروف التهجَّي في أوائل السَّور ، وذلك بأنَّ حكام اليهود هم حُيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم فقال له حيَّي : بلغنا أنَّه أُنزل عليك ( آلم ) أأُنزلت عليك ؟ قال : نعم ، فإن كان ذلك حقَّاً فإنَّي أعلم من هلك بأُمَّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها ؟ قال : نعم والى { الۤمۤصۤ } [ الأعراف : 1 ] ، قال : هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها ؟ قال : نعم { الۤر } [ يونس : 1 ] قال : هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة ؟ ونحن ممَّن لا يؤمن بهذا ، فأنزل تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } : أي ميل عن الحق ، وقيل : شك . { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه } : إختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم وقالوا : ألست تعلم أنَّه كلمة اللّه وروح منه ؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا ذلك ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية . وقال الكلبي : هم اليهود [ أجهل ] هذه الأمَّة باستخراجه بحساب الجمل . وقال ابن جري : هم المنافقون . [ قال ] الحسن : هم الخوارج . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } قال : إن لم يكونوا آخرون فالسبابيَّة ولا أدري من هم . وقال بعضهم : هم جميع المُحدثة . وروي حمَّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعاً عن عبد اللّه بن أبي مليكة الفتح عن عائشة : أنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم قرأ هذه الآية : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } فقال صلَّى اللّه عليه وسلَّم : " إذا رأيتم الَّذين يسألون عمَّا تشابه منه ويجادلون فيه الَّذين عنى اللّه عزَّ وجل فاحذروهم ولا تخالطوهم " . { ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ } : طلب الشرك قالهُ الربيع ، والسدي ، وابن الزبير ، ومجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم . { وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } : تفسيره وعلمهُ دليله قوله تعالى : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] . وقيل : ابتغاء عاقبته ، وطلب مدة أجل محمَّد ، وامته من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] أي عاقبته ، وأصلهُ من قول العرب : تأول الفتى إذا انتهى . قال : الأعشى : @ على أنّها كانت تأوّل جها تأوّل ربعي السقاب فأصحبا @@ يقول : هذا السجيُ لها فانقرت لها وابتغتها ، قال اللّه تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها . فقال قوم : الواو في قوله { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } واو العطف ، يعني أن تأويل المتشابه يعلمهُ اللّه ويعلمهُ الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون : { آمَنَّا بِهِ } . وهو قول مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، واختيار القتيبي قالوا : معناها يعلمونه ويقولون آمنا به فيكون قوله : يقولون ، حالاً والمعنى : الراسخون في العلم قائلين آمنَّا به . قال ابن المفرغ الحميري : @ أضربت حبك من امامه من بعد أيام برامه الريح تبكي شجوها والبرق يلمعُ في الغمامة @@ أراد والبرق لامعاً في غمامه وتبكي شجوه أيضاً ، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانهُ معنى . ودليل هذا التأويل قولهُ : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ الحشر : 7 ] . ثم قال : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] الآية . ثم قال : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] : أي والذين تبؤوا الدار ، ثم قال : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] : . ثم أخبر عنهم أنَّهم { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] الآية . ولا شك في أنَّ قوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] عطف على قوله : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } [ الحشر : 9 ] ، وانَّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء و { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] من جملة { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] . فمعنى الآية { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وهم مع استحقاقهم الفيء { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] أي قائلين على الحال . فكذلك هاهنا في { يَقُولُونَ رَبَّنَا } [ الحشر : 10 ] أي ويقولون آمنا به . ومما يؤيد هذا القول أنَّ اللّه تعالى لم ينزل كتابه إلاّ لينتفع له مبارك ، ويدل عليه على المعنى الذي ارادهُ فقال : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] ، وقال : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] . والمبين الظاهر ، وقال : { بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } [ الأعراف : 52 ] . فوصف جميعهُ بالتفصيل والتبيين وقال : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] . ولا يجوز أن تبَّين مالا يعلم ، وإذا جاز أن يعرفهُ الرسول صلى اللّه عليه وسلَّم مع قوله لا يعلمهُ إلاّ اللّه ، جاز أن يعرفهُ الربانيون من أصحابه . وقال : { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 3 ] ولا تؤمر باتَّباع مالا يُعلم ؛ ولأنَّه لولم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضلُ ؛ لأنهم ايضاً يقولون آمنا به . { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } : ولأنَّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [ قوماً ] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا : هذا متشابه لا يعلمهُ إلاّ اللّه ، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها . وكان ابن عباس يقول : في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم . وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممّن يعلم تأويله . وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة : غسلين ، وحناناً ، والاوَّاه ، والترقيم . وهذا إنَّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسرَّها . وقال آخرون : الواو في قوله { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } واو الاستئناف وتم الكلام ، وانقطع عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } . ثم ابتدأ وقال : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } تلا { وَٱلرَّاسِخُونَ } مبتدأ وخبره في يقولون ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس ، واختيار الكسائي والفراء والمفضَّل بن سلَّمة ومحمد بن جرير قالوا : إنَّ الراسخين لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يؤمنون به . والآية راجعة على هذا التأويل الى العلم بما في أجَلَ هذه الأمة ووقت قيام الساعة ، وفناء الدنيا ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ( عليه السلام ) ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، وعلم الروح ونحوها مما إستأثر اللّه بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه . وقال بعضهم : [ إعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد ] أستأثر اللّه بعلمه دوننا ، ونفسّره نحنُ ، ولم نتعبد بذلك . بل ألزمنا العمل بأوامره وإجتناب نواهيه ، ومما يصدَّق هذا القول قراءة عبد اللّه أنَّ تأويلهُ لا يُعلم إلاّ عند اللّه ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به . وفي حرف [ ] ) الراسخون في العلم آمنَّا به . ودليله أيضاً ما روَّي عن عمر بن عبد العزيز ، إنَّه قرأ هذه الآية ثم قال : انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } . وقال أبو نهيك الأسدي : إنَّكم تصلون هذه الآية وإنَّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربَّية وأشبه مظاهر الآية والقصة واللّه أعلم . والراسخون : الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم ، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يُقال : ( رسخ الإيمان في قلب فلان ) فهو يرسخ رسخاً ورسوخاً وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ ، وهذا كما يُقال : مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر : @ لقد رسخت في القلبِ منك مودة للنبي أبتْ آياتها أن تغيرا @@ وقال بعض المفسّرين من العلماء : الراسخون علماً : مؤمني أهل الكتاب ، مثل عبد اللّه بن سلام و [ ابن صوريا وكعب ] . [ قيل : ] الراسخون في العلم هم بعض الدارسين علم التوراة . وروي عن أنس بن مالك [ وأبي الدرداء وأبي أمامة ] : " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ الراسخون في العلم ؟ فقال : " منْ برَّت يمينهُ ، وصدق لسانهُ واستقام قلبهُ ، وعف بطنهُ وفرجهُ ، فذلك الراسخ في العلم " " . وقال وهيب : سمعتُ مالك بن أنس يُسأل عن تفسير قولهِ { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } من هم ؟ قال : العالم العامل بما علم تبع له . وقال نافع بن يزيد : كما أن يُقال الراسخون في العلم المؤمنون بالله ، المتذللون في طلب مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ، ولا [ يحقّرون ] من دونهم . وقال بعضهم : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } : من وجد في عملهِ أربعة أشياء : التقوى بينهُ وبين اللّه تعالى ، والتواضع بينهُ وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينهُ وبين نفسهُ . وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم : ( آمنا به ) سمّاهم اللّه تعالى : الراسخين في العلم ؛ فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به أي بالمتشابه { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ما علمناه وما لم نعلمهُ . قال المبرد : زعم بعض الناس أن ( عند ) ههنا صلة ومعناهُ كل من ربَّنا . { وَمَا يَذَّكَّرُ } : يتعظ بما في القرآن . { إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } : ذووا العقول ولبَّ كل شيء خالصه [ فلذلك قيل للعقل لب ] .