Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 101-101)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عن عالم المُلْك الذي تراه ، ولا يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب عنك ، وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك ، وقلت : إن لهذا العالم خالقاً إلهاً قادراً قوياً ، وتؤمن به هنا تهبُّ عليك نفحات الغيب لتصل إلى عالم الملكوت لأنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك ، وأعلنت إيمانك بالخالق سبحانه ، ورأيت جميل صُنْعه في السماء والكواكب ، وأعجْبتَ بدقة نظام سَيْر تلك الكواكب . وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي ، وتُبهر بدقة المنظِّم الخالق سبحانه وتعالى ، ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الأرض ، ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده ، بل كما قال الله سبحانه وتعالى : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر ، فنحن نكرِّم الصانع ، وقد أكرمت البشرية مصمِّم التلغراف ، ومصمم جهاز التليفزيون ، فما بالنا بخالق الكون كله سبحانه . ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية ، والثانية الضوئية تساوي ثلاثمائة ألف كيلو متر ، وهي شمس واحدة تراها ، غير آلاف الشموس الأخرى في المجرَّات الأولى ، وكل مجرَّة فيها ملايين من المجموعات الشمسية ، ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم بالشمس ، وقال عن كوكب الشِّعْرى : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } [ النجم : 49 ] . لأن كوكب الشعرى أكبر من الشمس . وحين تتأمل السماوات والأرض تجد في الأرض جبالاً شامخة ، وتمر عليها فتُدْهش من دقة التكوين ودقة التماسك ، وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة ، وقد تجد أسطح الجبال مُكوَّنة من مواد خصبة بشكل هشٍّ ، فإذا ما نزل عليها المطر ، فهو يصحبها معه إلى الأرض لأنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد ، وتتخلل الأرض التي شقَّقتها حرارة الشمس . والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غِرْيَن في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء السد العالي ، وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة " الطحينة " من فرط امتزاجها بذرات الغِرْين ، وفي مثل هذا الغرين يوجد الخِصْب الذي نأخذ منه الأقوات . ولو أن الجبال كلها كانت هشَّة التكوين ، لأزالها المطر مرة واحدة ، وجعلها مجرد مسافة نصف متر مضاف لسطح الأرض ، ولاختفى الخصب من الأرض بعد سنوات ، لكن شاء الحق سبحانه أن يجعل الجبال متماسكة ، وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة ليحمل الخصب إلى الأرض . ومَنْ يتأمل هندسة التكوين في الاقتيات يجد الجبال مخازن للقوت . فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم ، سواء أكان آلات لحرث الأرض ، أو أي آلات أخرى تساعد في تجميل الحياة ، وتجد الحديد مخزوناً في الجبال . وكذلك نجد المواد الأخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز ، أو الرخام ، أو الفيروز أو الغازات . إذن : فالمطمور في الجبال إما للاقتيات ، أو وسيلة إلى الاقتيات ، أو وسيلة للتَّرف فوق الاقتيات . وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ الخِصْب من الطبقة الهشَّة على سطح الجبال وتبقى المواد الأخرى كثروات للناس ، ففي إفريقيا مثلاً توجد مناجم للفحم والماس ، وفي بلاد أخرى تجد عود الطيب ، وهو عبارة عن جذور أشجار . وأنت لو شققت الأرض كقطاع من محيط الأرض إلى المركز تجد الأرض الخصبة مع الصحراء ، مع المياه ، مع الجبال ، متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الأول . وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الأرض ، فأنت لو حسبت مثلاً ما أعطاه المطر للنيل من خِصْب الجبال من يوم أن خلق الله - عز وجل - النيل في أرض وادي النيل في إفريقيا ، وحسبت ما أعطاه النفط البترول ، في صحراء الإمارات مثلاً ، ستجد أن عطاء النيل يتساوى مع عطاء البترول ، رغم أن اكتشاف البترول قد تَمَّ حديثاً . وكل قُوتٍ محسوب من مخازن القوت ، وكل قوت له زمن ، فهناك زمن للفحم ، وزمن للبترول ، كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم الأعلى سبحانه . وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال : { يَعْقِلُونَ } في مجال النظر في السماوات وفي الأرض ، فهذه دعوة لتأمل عجائب السماوات والأرض . ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة ، ولها قاعدة ، مثلها مثل الهرم ، وتجد الوديان على العكس من الجبال لأن الوادي يكون بين جبلين ، وتجد رأس الوادي في أسفله ، ورأس الجبل في قمته . وحين ينزل المطر فهو يمرُّ برأس الجبل الضيق ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق ، وكلما نزل المطر فهو يأخذ من سطح الجبل ليملأ مساحة الوادي المتسعة ، وكلما ازداد الخلق ، زاد الله سبحانه رقعة الاقتيات . ومثال ذلك تجده في الغِرْيَن القادم من منابع النيل ليأتي إلى وادي النيل والدلتا ، وكانت هذه الدلتا من قبل مجرد مستنقعات مالحة ، وشاء لها الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة . وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب . والذي يفسد الكون هو أننا لا نقوم بتكثير ما تكاثر ، بل ننتظر إلى أن تزدحم الأرض بمن عليها ، ثم نفكر في استصلاح أراضٍ جديدة ، وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل . وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن ، يكتشفها الإنسان ويُعْمِل عقله في استخدامها . والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيماناً ، وكلما طبَّق المؤمن حُكْماً تكليفياً مأموراً به ، يجد نور الإيمان وهو يشرق في قلبه . وليُجرِّب أي مسلم هذه التجربة ، فليجرب أن يعيش أسبوعاً في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى ، ثم يَزنْ نفسه ويُقيِّمها ليعرف الفارق بين أول الأسبوع وآخر الأسبوع ، سيكتشف في هذا الأسبوع أنه يصلي في مواقيت الصلاة ، وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حلالاً ، وسيجد أنه يصرف ماله في حلال . زِنْ نفسك يقينياً في آخر الأسبوع ستجد أن نفسك قد شفَّت شفافية رائعة لتجد ضوء ونور الإيمان وهو يصنع انسجاماً بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل وأعقدها أيضاً . ومثال ذلك : إنك قد تجد الرجل من هؤلاء الذين أسبغ عليهم تطبيقُ منهج الله الشفافيةَ تسأله زوجته : ماذا نطبخ اليوم ؟ فيقول لها : فَلْنقْضِ اليوم بما بقي من طعام أمس ، ثم يُفَاجأ بقريب له يزوره من الريف ، وقد جاءه ومعه الخير . لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجماً مع الكون كله ، فيصله رزق الله تعالى له من أيِّ مكان . وتجد الشفافية أيضاً في أعقد الأمور ، ألم يَقُلْ يعقوب عليه السلام : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ … } [ يوسف : 94 ] . وكان إخوة يوسف - عليه السلام - ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم ، حاملين قميصَ يوسف ، الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره . لقد جاءت ريح يوسف عليه السلام لأبيه يعقوب لأن يعقوب عليه السلام قد عاش في انسجام مع الكون ، ولا توجد مُضارة بينه وبين الكون . والمثال الحيّ لذلك هو فرح الكون لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم مولده ، لقد فرح الكون بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الكون عابد مُسبِّح لله سبحانه ، فحين يأتي مَنْ يدعو العباد إلى التوحيد لا بُدَّ أن يفرح الكون ، أما مَنْ يَعْصِ الله تعالى ، فالكون كله يكرهه ويلعنه ، ويتلاعن الاثنان . وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد الله سبحانه أن تنزل عليه الرسالة الإلهية ليعتدل ميزان الإنسان مع الكون . وهنا يقول الحق سبحانه : { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ يونس : 101 ] . والكون كله أمامهم ، فلماذا لا ينظرون ؟ إنهم يبصُرون ولا يستبصرون ، مثل الذي يسمع ولا يسمع ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : { … وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] . إذن : فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ … } .