Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 61-61)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : ما تكون يا محمد في شأن . والشأن : هو الحال العظيم المتميز الذي يطرأ على الأمر . ونحن في حياتنا اليومية نقول : ما شأنك اليوم أو ما حالك ؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي حدث له أو فعله ، ويتناسى التافه من الأمور . ولذلك يصف الله تعالى نفسه فيقول : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] . أي : لا تظنوا أن ربنا - سبحانه وتعالى - خلق النواميس والقوانين ، وقال لها : اعملي أنتِ ، لا فهو سبحانه كل يوم في شأن . ولذلك حين سئل أحد العلماء : ما شأن ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ ؟ فقال : " أمور يبديها ولا يبتديها " . أي : أنه سبحانه قد رسم كل شيء ، وجعل له زماناً ليظهر ، فهو سبحانه قيُّوم ، أي : مُبَالغ في القيام على مصالحكم ولذلك يطمئننا سبحانه - وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا - بأنه سبحانه قيوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ، وهو يراعينا . فالحديث في الآية التي نحن بصددها موجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ … } [ يونس : 61 ] . وشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهتم به ليس المأكل ولا المشرب ، إنما المهم بالنسبة له هو بلاغ الرسالة بالمنهج بـ " افعل " و " لا تفعل " . { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ … } [ يونس : 61 ] . و " منه " هنا بمعنى اللام ، أي : ما تتلو له ، وتعني تأبيداً لآيات القرآن . وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه : { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ … } [ نوح : 25 ] . أي : أغرقوا لأجْل خطيئاتهم . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لأجل هذا الشأن من قرآن ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في شأن هام هو الرسالة ، ويتلو من القرآن تأبيداً لهذا الشأن وهو البلاغ بالمنهج . ويدخل في هذا الشأن ما فوِّض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حسب قول الحق سبحانه : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . ومثال ذلك : تحديد كيفية الصلاة وعدد ركعات كل صلاة ، وكذلك نِصَاب الزكاة ، وهذه أمور لم يأت بها القرآن تفصيلاً ، ولكن جاءت بها الأحاديث النبوية . إذن : فهناك تفويض من الحق للرسول صلى الله عليه وسلم ليكتمل البلاغ بمنهج الله ، بنصوص القرآن ، وبتفويض الله تعالى له أن يشرِّع . إذن : فكل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلاغ عن الله بالنص القرآني ، وإما تطبيق فعليّ للنص القرآني بالحديث النبوي ، وبالأسوة التي تركها لنا صلى الله عليه وسلم في سُنَّته . والحُجَّة على الحُكم - أي حُكم - يأتي بها القرآن ، فإن كانت الأحكام غير صادرة من الله مباشرة ، فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض من الله تعالى ليشرِّع . وبذلك نردُّ على المنافقين الذين إذا حُدِّثوا بشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالوا : " بيننا وبينكم كتاب الله " وهدفهم أن يردُّوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فِعْلاً ، أو قولاً أو إقراراً . ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد إلى الجماعة فيقول جَلَّ شأنه : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً … } [ يونس : 61 ] . وفي هذا انتقال للسامعين للقرآن ، المبلَّغ إليهم هذا المنهج ، فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه . والعمل هو مجموع الأحداث التي تصدر عن الإنسان ، فكل حدث يصدر من الإنسان - ولو بِنيَّة القلب - يسمَّى عملاً لأن عمل القلوب هو النية . ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولاً ، وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلاً . وهكذا ينقسم العمل إلى قسمين : قول ، وفعل . وقد اختُصَّ حدث اللسان باسم القول لأن أصل مستندات التكليف كلها قولية . ثم يقول الحق سبحانه : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل على حسن الاستجابة للمنهج فور أن يبلِّغه الرسول صلى الله عليه وسلم . والإقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق ، وتلك اللهفة ، وحسن الاستقبال ، وإخلاص الأداء ، كل هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } كما يفيض ماء الإناء إذا امتلأ لينزل . أي : أن تقبلوا على أعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب . وقد قال الحق سبحانه : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ … } [ البقرة : 198 ] . أي : شَرَعْتُم في الذهاب مسرعين لأنكم أدَّيتم نُسُكاً أخذتم منه طاقة ، وتقبلون بها على نُسُك ثانٍ . إذن : فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم ، لكن ماذا عن النيَّات وما يُبيَّت فيها من خواطر . ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب . يقول الحق سبحانه : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . أي : أن كل أمورك ، وأمور الخلق ، والمخلوقات كلها معلومة لله تعالى ، ومكتوبة في كتاب مبين واضح ، فلا أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب ، أو يختلس حركة ضمير ، وكلمة " يعزب " تعني : يغيب ويختفي . والحق سبحانه يخبرنا أنه لا يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى درجة من القِلَّة . ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إلا الذَّرَّة ، وهي النملة الدقيقة الصغيرة جِدّاً ، ثم أطلقت الذرة على الهَبَاء الشائع في الجو ، ويمكنك أن ترى هذا الهَبَاء إن جلست في حجرة مظلمة مغلقة ، ثم دخلها شعاع من ضوء ، هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب وكأنه سهم ، وترى مكوِّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو ، تلك الذرات التي لا تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلام فقط ، ولكن التناقض بين الضوء والظلام يُبرزها . وأنت لا تدرك الشيء ولا تحسه لأمرين : إما لتناهيه في الصغر ، وإما لتناهيه في الكبر فلا تحيط به ، وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا المَجَاهر التي تُكبِّر الشيء المتناهي في الصغر آلاف ، أو ملايين المرات . وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فسترى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها من قبل لأنها بلغت من الدقة والصِّغر بحيث لا تستطيع عيناك أن تدركها ، فإن رأيتها بالمجهر كَبُرَت فترى فجوات وتعاريج وعُلُوّاً وانخفاظاً - مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعماً . وكذلك أنت لا تقدر على إدراك الشيء الضخم ، وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة فتراه أصغر من حجمه ، وكلما ابتعد صَغُرَ ، فأنت إذا رأيت - مثلاً - رجلاً طويلاً على مسافة كبيرة ، فأنت تراه وكأنه طفل صغير ، وكلما اقترتب منه زاد طوله في عينيك . إذن : لا الضخامة ولا البُعد ولا القِلَّة تمنع من علم الحق سبحانه لأي شيء . وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه ، وهو الذرة ، أي : النملة الصغيرة . وأنت إذا وطأتَ نملة في أرض رملية فهي لا تموت ، بل تدخل في فجوات الرمل ، وتجد لنفسها طريقاً إلى سطح الأرض مرة أخرى . قد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدَّث عن سليمان - عليه السلام - في وادي النمل ، فقال تعالى : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] . لأنهم لا يرونهم لحجمهم المتناهي في الصغر . وهكذا يعطينا الحق سبحانه بياناً عن كل أمة في الحياة ، وأن من بينهم جنوداً يحرسون بيقظة ، فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده ، لأنهم لن يروا النمل الصغير . إذن : الذَّرُّ إما أن يكون النمل الصغير ، وإما أن يكون الذرَّات الهبائية . وأراد الله سبحانه أن يضرب لنا مثلاً بإحاطة علمه في أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة . ويعزب ، أي : يغيب ، ويقال : " هذا البئر ماؤه عازب " ، أي قادم من عمق بعيد ، ويحتاج استخراجه إلى دَلْوٍ وحبال طويلة . ونسمِّي الرجل الذي يبعد عن أهله " عَزَب " . وقول الحق سبحانه : { وَمَا يَعْزُبُ } . أي : لا يبعد ولا يغيب عنه أصغر شيء ولا أكبر شيء . يقول سبحانه ذلك ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر الإنسان إنما يشهدها الله ، ويَعْلَمُها ، وهو المُجَازِي عليها . وإن استطاع إنسان أن يُعمِّي على قضاء الأرض ، فلن يستطيع أن يُعمِّي على قضاء السماء . ومسألة الذرَّة والصغر يقول عنها الحق سبحانه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . هذا للمتساوِي في الثقل والوزن ، أما إن كان أصغر من الذرة ، فقد ذكره الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فقال : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ … } [ يونس : 61 ] . وعلى زمن نزول القرآن الكريم لم يكن أحد يعرف أن هناك ما هو أصغر من الذرة ، وكنا جميعاً حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى لا نعلم أن هناك شيئاً أصغر من الذرة ، وكان العلماء يعتقدون أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزَّأ لأنها أصغر ما يقع عليه البصر ، فضرب الله مثلاً بالأقل في زمن نزول القرآن . ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الأولى واخترعت ألمانيا آلةً لتحطيم الذرة قيل عنها : إنها آلة تحطيم الجوهر الفرد . أي : الشيء الذي لا ينقسم ، وهذه الآلة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي عَصَّارة القصب ، والمسافة بين الاسطوانتين لا تكاد تُرَى ، وحين حَطَّمت ألمانيا ما قيل عنه " الجوهر الفرد " تحول إلى ما هو أقل منه ، وتفتَّتت الذرّة . وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة . وحين اخترعت ألمانيا تلك الآلة توجَسّ المتصلون بالدين وخافوا أن يقال : إن الحق سبحانه لم يذكر ما هو أقل من الذرة ، ولكنهم التفتوا إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، فقرأوا قول الحق سبحانه : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . و { وَمَا يَعْزُبُ } أي : لا يبعد أو يغيب { عَن رَّبِّكَ } أي : عن عِلْمه { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } . أي : وزن ذَرَّة . وقديماً قلنا : إن البعض يقول : إن " من " قد تكون حرفاً زائداً في اللغة ، كقولنا : " ما جاءني مِنْ رجل " وتعرب كلمة " من " : حرف جر زائد ، و " رجل " : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي منع من ظهورها اشتعال المحلِّ وهو " اللام " بحركة حرف الجر الزائد . ولكن في كلام الله لا يوجد حرف زائد ، فـ " مِنْ " في قوله : { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } . أي : من بداية ما يقال له " مثقال " . ويقول الحق سبحانه في آية أخرى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 3 ] . وكلمة { وَرَبِّي } مُقْسَمٌ به ، وحرف " الواو " هو حرف الجر ، ولم يأت هنا بالشهادة ، وجاء بالغيب ، ولم يأت بعلم الغيب في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها . وعالم الشهادة ، تعني : أنه عَالِمٌ بكل ما يشهد ، ويظن البشر أنها غير مُحَاطٍ بها لعظمتها أو لأن الله غيب فلا يرى إلا الغيب ، لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة . لقد قال الحق كلمة " مقال ذرة " ثلاث مرات : مرة حين قال سبحانه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ … } [ الزلزلة : 7 ] . ومرة حين قال هنا : { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ … } [ يونس : 61 ] . وجاء بـ " من " هنا ليبين أنه لا يغيب عن الله تعالى من بداية ما يقال له " مثقال " . وقال الحق سبحانه في موضع آخر : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 3 ] . وجاء بالسماوات أولاً ، وجاء في الآية - التي نحن بصدد خواطرنا عنها - بالأرض أولاً ، وهو في الآيتين يتكلم عن علمه للغيب ، فيأتي بمثقال الذرة ويقدِّم السماء ويأتي بها مفردة ، ثم يأتي بما هو أقل من الذرة ويقدِّم الأرض . وهذا كله من إعجاز أساليب القرآن التي أراد البعض من المستشرقين أن يعترضوا عليها ، وكانت جميع اعتراضاتهم نتيجة لعجزهم عن امتلاك مَلَكة الأداء البياني . وإنْ عرضنا الرد على تساؤلاتهم نجد أن الحق سبحانه قَدَّم الأرض في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأنه سبحانه يتكلم عن أهل الأرض : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ … } [ يونس : 61 ] . وجاء أيضاً بالسماء ، وهي السماء الدنيا التي يراها أهل الأرض . أما الآية الأخرى فهو سبحانه يقول : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 3 ] . والكلام هنا عن الساعة ، وعلمها عند الله تعالى ، ولم تنزل من السماوات إلى السماء الدنيا حتى نقول للمكلَّفين في الأرض : قوموا ها هي الساعة . ولذلك جاء الحديث هنا عن السماوات أولاً لأن علم الساعة عند ربِّي ، ولن ينزل إلا بمشيئته سبحانه . وهكذا جاء كل أسلوب لا بإجمال المعنى ، ولكن بدقة جزئياته ، فتكلم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، وآية سبأ عن العلم والذرَّة ، والسماء والأرض ، وكل آية جاءت الكلمات فيها بتقديم أو تأخير يناسب مجالها . ثم يقول الحق سبحانه : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . ولنا أن نلتفت إلى أن الاستثناء هنا لا يُخْرِج ما قبله ، بل كل شيْ مكتوب في الكتاب المبين ، ونحن في الدنيا نجد الإنسان إن كان له دَين عند آخر فهو يحتفظ بالوثائق المكتوبة التي تُسجِّل ما له وما عليه . ولكن ، أيحتفظ الحق سبحانه بأعمالنا ونيَّاتنا مكتوبة كحجة له ، أم حجة لنا ؟ إنه سبحانه يعلم أزلاً كل أعمالنا ، ولكنه يُسجِّل لنا بالواقع تلك الأعمال والنيات لنعلم عن أنفسنا ماذا فعلنا لتنقطع حجة من أساء إذا وقع به العقاب . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ … } .