Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 6-6)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهكذا بيّن الحق اختلاف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معاً ، وعطف عليها { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } لأنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب وهواء ، وغير ذلك ، ثم سخَّر الكون كله لخدمة السيد وهو الإنسان . ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء ، وشراب ماء ، وطعام هذه أهم احتياجات الإنسان من مقومات الحياة . ويصبر الإنسان على المأكل أكثر مما يصبر على المشرب ، ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على نَفَس الهواء ، بل ولا يملك الإنسان الصبر على نَفَس الهواء مقدار شهيق وزفير . لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم ، لأن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله ، عكس ما اخترع البشر من آلات ، فالسيارة لا يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود ، أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام يخفف من القيود ، أو لعل الإنسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به . أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له لأن الإنسان أكثر احتياجاً للماء من الطعام . أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملِّك الهواء لأحد لأن الهواء هو العنصر الأساسي للحياة ولذلك اشتق منه لفظ النّفس ، ونَفْس ونَفَس . ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الأرض ، إلى ثبات المباني التي عليها ، إلى ثبات الأبراج ، إلى ثبات الجبال ، كل ذلك بفعل الهواء لأن تياراته التي تحيط بجوانب كل الأشياء هي التي تثبّتها ، وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني والجبال فهي تنهدم على الفور . إذن : الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله . ولذلك قلنا : إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح ، فهو سبحانه يتكلم بدقَّةِ خالقٍ ، بدقة إله حكيمٍ ، فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة ، مثل قوله الحق : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ … } [ الحجر : 22 ] . لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب ، مثل قوله : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] . ومثل قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الأحقاف : 25 ] . لأن الرياح تأتي من كل ناحية ، فتوازن الكائنات ، أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما في طريقها . وهنا يقول سبحانه : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي : أنه جاء بالمخلوقات الأخرى مجملة بعد أن جاء بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين ، ثم ذكر السماوات والأرض وما فيهما من آيات أخرى : من رعد ، وبرق ، وسحاب ، ونجوم وعناصر في الكون ، كل ذلك مجمل في قوله : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } لأنه لو أراد أن يفصِّل لَذَكَرَ كثيراً من الآيات والنعم ، وهو القائل : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا … } [ إبراهيم : 34 ] . والقرآن ليس كتاباً لبسط المسائل كلها ، بل هو كتاب منهج ، ومن العجيب أنه جاء بـ " إن " وهي التي تفيد الشك في قوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } لأن أحداً مهما أوتي من العلم ليس بقادر أن يُحصي نعمَ الله في الكون ولأن الإقبال على العَدّ فرض إمكان الحصر ، ولا يوجد إمكان لذلك الحصر لذلك لم يأت بـ " إذا " ، بل جاء بـ " إنْ " وهي في مقام الشك . والأعجب من هذا أنك تجد أن العَدَّ يقتضي التكرار ، ولم يقل الله سبحانه : وإن تعدوا نعم الله ، بل جاء بـ " نعمة " واحدة ، وإذا استقصيتَ ما في النعمة لوجدتَ فيها آلاف النعم التي لا تُحصَى . ويُنهي الحق الآية بقوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ، والآيات تطلق ثلاث إطلاقات : الإطلاق الأول آيات القرآن ، والإطلاق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول ، والإطلاق الثالث للآية أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود الدالة على عظمة الله سبحانه . وهذه الآيات خلقها الله لتُلْفت إلى مُكَوِّن هذه الآيات ، واللفتة إلى مُكوِّن هذه الآيات ضرورة لينشأ الإنسان في انسجام مع الكون الذي أنشىء من أجله ، بحيث لا يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا الانسجام ، فهبْ أن إنساناً ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الآخرة بشقاء وجحيم ، فما الذي استفاده من ذلك ؟ إذن : كل المسائل التي تنتهي إلى زوال لا يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة لأن النعمة تعني أن تتنعم بها تنعُّماً يعطيك يقيناً أنها لا تفارقك وأنت لا تفارقها ، والدنيا في أطول أعمارها إما أن تفوت النعمةُ فيها الإنسان ، وإما أن يفوت هو النعمةَ . والحق - سبحانه وتعالى - يبقي الذين يريدون أن يتقوا الله ليصلوا إلى نعيم لا يفوت ولا يُفَات ، ويجب أن ينظروا في آيات الكون لأنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادوا فائدتين : الفائدة الأولى أن يفيدوا مما خلق الله ، والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه الله إنما جعله وسيلة ومَعْبراً إلى غيره ، فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالأسباب ، ولكنه يريد أن يُسْلمه بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبِّب وهو الله . فالذين يتقون هم الذين يلتفتون ، والذين لا يتقون لا يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على الإنسان منهم الأشياء فلا يعتبرون بها ، كما قال الله : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . إذن : فهم لا يلتفتون إلى ما في آيات الحق من الآيات الدالة على عظمة قدرة الله سبحانه فهم غير حريصين على أن يَقُوا أنفسهم عذاب الآخرة . ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … } .