Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 78-78)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية ، ينسبونها لموسى - عليه السلام - رغم أن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى . وكان واجب المرسل إليه - فرعون وملئه - أن ينظر إلى ما جاء به الرسول ، لا إلى شخصية الرسول . ولو قال فرعون لموسى : " جيْءَ بك " لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلهاً أعلى ، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها لذلك جاء قوله : { أَجِئْتَنَا } فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام . ولماذا المجيء ؟ يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا … } [ يونس : 78 ] . والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له ، وما دام الإنسان بصدد شيء فكل نظره واتجاهه يكون إليه ، وكان قوم فرعون على فساد وضلال ، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال . وجاء موسى عليه السلام ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال ، فقالوا : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا … } [ يونس : 78 ] . وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم ، فقد كانوا يقلدون آباءهم ، والتقليد يريح المقلِّد ، فلا يُعْمِل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به ، ويبني عليه سلوكه . والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول : " مثل الأطرش في الزفة " أي : أن فاقد السمع لا يسمع ما يقال من أي جمهرة ، بل يسير مع الناس حيث تسير ولا يعرف له اتجاهاً . والمقلِّد إنما يعطل فكره ، ولا يختار بين البدائل ، ولا يميز الصواب ليفعله ، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه . وفرعون وملؤه كانوا على ضلال ، هو نفس ضلال الآباء ، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار ، بل قد يحقق شهوات عاجلة . أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء ، فهو يحجب الشهوة ، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد الشهوة . إذن : فالمقلد بين حالتين : الحالة الأولى : أنه لا يُعْمِل عقله ، بل يفعل مثل من سبقوه ، أو مثل من يحيا بينهم . والحالة الثانية : أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف ، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج ، فلا يكسب - على سبيل المثال - إلا من حلال ، ولا يفعل منكراً ، ولا يذم أحداً ، وهكذا يقيد المنهج حركته ، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين ، فالحركة تتسع ناحية الشهوات . ولذلك أقول دائماً : إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية ، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء ، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد ، وقد يقول للآباء : أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان ، لكن إن تشرَّب النشء القيم الدينية الصحيحة فسيمتثل لقانون الحق ، ويحجز نفسه عن الشهوات . ونحن نجد أبناء الأسر التي لا تتبع منهج الله في تربية الأبناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط عليهم أقران السوء ، فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد . لكن أبناء الأسر الملتزمة يراعون منهج الله تعالى فلا يقلدون آحداً من أهل السوء لأن ضمير الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب . ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم ، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور ، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى ، وتتكون ذاتية الابن على ضوء منهج الحق سبحانه ، فلا يتمرد الابن متجهاً إلى الشر ، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحاً . التقليد - إذن - يحتاج إلى بحث دقيق لأن الإنسان الذي سوف تقلده ، لن يكن مسئولاً عنك لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً … } [ لقمان : 33 ] . إذن : فأمر الابن يجب أن يكون نابعاً من ذاته ، وكذلك أمر الأب ، وعلى كل إنسان أن يُعْمِل عقله بين البدائل . ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلَّدوا الآباء : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ … } [ البقرة : 170 ] . ثم يرد عليهم الحق سبحانه : { … أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . فإذا كانت المسألة مسألة تقليد ، فلماذا يتعلم الابن ؟ ولماذا لا ينام الأبناء على الأرض ولا يشترون أسِرَّة ؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الأشياء والأدوات التي تسهِّل الحياة ؟ فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر ، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل . إذن : فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل لنختار بين البدائل ، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء ، فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك ، وهذا الاهتداء المختار هو السُّمو نحو الحياة الفاضلة . يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ … } [ المائدة : 104 ] أي : أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردَّ عليهم القرآن : { … أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] . وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين : الآية الأولى : هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى : { … بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . والآية الثانية : هي قول الحق سبحانه وتعالى : { … حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] . وهم في هذه الآية أعلنوا الاكتفاء بما كان عليه آباؤهم . وهناك فارق بين الآيتين ، فالعاقل غير من لا يعلم لأن العاقل قادر على الاستنباط ، ولكن من لا يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره . إذن : فالذين اكتفوا بما عند آبائهم ، وقالوا : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ … } [ المائدة : 104 ] . هؤلاء هم الذين غالوا في الاعتزاز بما كان عند آبائهم لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم لا يعلمون . أي : ليس لهم فكر ولا علم على الإطلاق ، بل يعيشون في ظلمات من الجهل . وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه : { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ … } [ يونس : 78 ] . أي : هل جئت لتصرفنا ، وتحوِّل وجوهنا أو وجهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض ؟ وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم ، وهم يحبون الحفاظ عليه ، والأمر هنا يشمل نقطتين : الأولى : هي تَرْكُ ما وجدوا عليه الآباء . والثانية : هي الكبرياء والعظمة في الأرض . ومثال ذلك : حين يقول مقاتل لآخر : " ارْمِ سيفك " وهي تختلف عن قوله : " هات سيفك " ، فَرَمْيُ السيف تجريد من القوة ، لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر بذلك . وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة . الأولى : هي ترك عقيدة الآباء . والثانية : هي سلب الكبرياء ، أي : السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار ، والمصالح المقضية ، فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون . ولذلك أعلنوا عدم الإيمان ، وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصددها : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 78 ] . أي : أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها ، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون - عليهما السلام . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي … } .