Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 99-99)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والحق سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به ، وبين من كفروا به ، فلا بد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا . وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه يحتاج إلى عبادة الناس لان الله عَزَّ وجل قديم أزليٌّ بكل صفات الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق ، وبكماله خلق الخلق ، وقوته سبحانه وتعالى في ذاته ، وهو خالق من قبل أن يخلق الخلق ، ورازق قبل أن يخلق الرزق والمرزوق ، والخلق من آثار صفات الكمال فيه ، وهو الذي أوجد كل شيء من عدم . ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات لأنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها . فحين تقول : حيٌّ ، ومُحْيٍ ، فليس معنى ذلك أن الله تعالى موصوف بـ " مُحْيٍ " بعد أن وجد مَنْ يحييه ، لا ، إنه مُحيٍ ، وبهذه الصفة أحيا . ولله المثل الأعلى ، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل تشبيه : قد نرى المصوِّر أو الرسام الذي صنع لوحة جميلة ، هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها ، واللوحة ليست إلا أثراً لهذه الموهبة . الحق سبحانه وتعالى - إذن - له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق ، وبصفات الكمال خَلَق الخَلْق . فإياك أن تفهم أن هناك أمراً قد جَدَّ على الله تعالى ، فلا شيء يجِدُّ على الحق سبحانه ، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم . ونحن نعلم أن الإيمان مطلوب من الإنسان ، وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه ، ومطلوب من جنس آخر أخبرنا عنه الله - تبارك وتعالى - وهو الجن . وأما بقية الكون فمُسبِّح مؤمن بالله تعالى ، والكون عوالم لا حصر لها ، ولكلٍّ نظام لا يحيد عنه . ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين - الإنس والجن - في نظام التسخير ما عَزَّ عليه ذلك لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ولا يثبت له المحبوبية . ولذلك ترك الحق سبحانه الإنسان مختاراً ليؤمن أو لا يؤمن ، وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته مؤمناً ، وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر ، فالإيمان المطلوب من الإنسان أو الجن هو إيمان الاختيار . وأما إيمان القسر والقهر ، فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه ، مُسبِّح له . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . وهذا ليس تسبيح دلالة ورمز ، بل هو تسبيح حقيقي ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . فإن فقَّهك الله تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات ، بدليل أنه عَلَّم سليمان عليه السلام منطق الطير ، وسمع النملة تقول : { … يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] . والهدهد قال لسليمان عليه السلام ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] . إذن : فكل ما في الكون مُسبِّح لله تعالى ، يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين : الإنسان والجان لأن كلاً منهما فيه عقلٌ ، وله مَيْزة الاختيار بين البدائل . ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للإنسان الاختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختياراً ، ولو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر الإنسان على الإيمان لَفعلَ . أقول ذلك حتى لا يقولن أحد : ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل ، وتكذيب أناس ، ثم إهلاك المكذِّبين ؟ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . إذن : فالحق سبحانه خلق الإنسان وسخَّر له كل الأجناس ، ولم يجبره على الإيمان ، بل يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحبّاً مخلصاً لقومه وعشيرته ، وذاق حلاوة الإيمان ، وحزن لأنهم لم يؤمنوا ، فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلاغ فقط ، فلا يكلّف نفسه شَططاً . والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للإنسان حقَّ الاختيار وسخَّر له الكون ، ومن الناس من يؤمن ، ومن الناس من يكفر ، بل ومن المؤمنين من يطيع مرة ، ويعصي أخرى ، وهذه هي مشيئة الحق ليتوازن الكون ، فكل صفة خيِّرة إنْ وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه الله سبحانه وتعالى للإنسان ، فلا تحزن يا رسول الله فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك . وإنْ غضب واحد من أن الآخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له : إن الحق سبحانه هو خالق الكون وهو الرازق ، قد كفروا به وألحدوا ، وجعلوا له شركاء ، فتَخلَّقوا بأخلاق الله ؟ ولذلك قال الحق سبحانه : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الاختيار . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ … } .