Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ … } [ هود : 12 ] . وهو استفهام في معرض النهي . ولله المثل الأعلى - أنت قد تقول لابنك لتحثَّه على الاجتهاد : " لعلَّك سُررت من فشل فلان " وفَحْوَى هذا الخطاب ، استفهام في معرض النهي ، وهو استفهام يحمل الرجاء . وهنا تجد أن الراجي هو ربك - سبحانه وتعالى - الذي أرسلك بالدعوة . ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيِّناً : لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء المتعنتين ، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحُّ دائماً في التأكيد عليه ، فأنت تؤكد لهم دائماً أنك بشرٌ ، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك ، فأنت لم تَقُلْ أبداً عن نفسك إنك إله ، ليطلبوا منك آيات تُخالف النواميس ، بل أنت مُبلِّغ عن الله تعالى . وإياك أن يضيق صدرك فلا تُبلغهم شيئاً مما أنزِلَ إليك لأن البلاغَ هو الحُجَّة عليهم ، فلو ضاق صدرُك منهم ، وأنقصتَ البلاغ الموكَّل إليك لأنهم كلما أبلغوا بآية كذَّبوها ، فاعلمْ أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذَّبوا . وكلمة " ضائق " اسم فاعل ، ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظاً بهذه الصفة لتكون لازمة له ، ولكنها تعبِّر عن مرحلة من المراحل ، مثلما نقول : " فلان نَاجِر " أي : أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرَّة واحدة - أو قليلاً - ولا يحترف هذا العمل . وكذلك كلمة " ضائق " وهي تعبِّر في مرحلة لا أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم من إنكار ، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته ، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كَنْزٌ . وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة ، فقيمة القيم عندهم تركزَّتْ في المال ولذلك تمنَّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الأثرياء ، مصداقاً لقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . إذن : فلم يكن اعتراضهم على القرآن ، بل على مَنْ نزل عليه القرآن . وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ ، وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن الدعوة إلى الله تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة عليه من قبل . وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صلى الله عليه وسلم . والكَنْزُ - لغويّاً - هو الشيء المجتمع ، فإن كانت الماشية - مثلاً - مليئة باللحم يقال لها : " مُكْتَنِزَةٌ لحماً " ولكن كلمة " الكنز " أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لأي شيءٍ ، وهو الذهب . ولذلك قال الحق سبحانه : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ … } [ التوبة : 34 ] . ونحن نعلم أن هناك فارقاً بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر ، فالرزق الغير مباشر هو ما تنتفع به ، طعاماً أو شراباً ، وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر لكنه لا يُغني عن الرزق المباشر المستمر . فلو أن إنساناً في صحراء ومعه قناطير مقنطرة من الذهب ، ولا يجد طعاماً ولا شربة ماء ، ماذا يفعل له الذهب ؟ ولو عرض عليه إنسانٌ آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل كل ما يملك من ذهب لوافق على الفور . وهنا لا يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل الرغيف وشربة الماء ، ولكن قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة . إذن : معنى كلمة " كنز " هو نقد من الذهب والفضة مجتمعاً ، ويقال عنه بالعامية عندنا في مصر : " نقود تحت البلاطة " ، ولكن إذا أدَّى صاحب هذا النقد حقَّ الله تعالى فيما ادَّخره ، لا يُعتبر كَنْزاً لأن الشرط في الكَنْزِ أن يكون مَخفيّاً ، والزكاة التي تُخرَج من المال المدَّخر توضح للمجتمع أن صاحب المال لا يُخفى ما عنده . ولذلك لا يُسمَّى الكَنْزُ إلاَّ للشيء المجتمع وممنوع منه حق الله تعالى ، فإنْ أدَّى حقُّ الله سبحانه فقد رُفعَتْ عنه الكَنزية لأن الحق سبحانه وتعالى يقول : { … وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] . ومن هذا القول الكريم نفهم أن مَنْ يملك مالاً ويؤدِّي حقَّ الله فيه ، لا يُعتبر كَنْزاً ، وحين تُنقِص الزكاةُ المالَ في ظاهر الأمر ، فهي تدفع الإنسان إلى أن يُحْسِن استثمار هذا المال حتى لا يفقده على مدار أربعين عاماً ، بحكم أن زكاة المال هي اثنان ونصف في المائة ولذلك يحاول صاحب المال أن يُثمِّره ، وهو بذلك يُهيِّىء فرصة لغير واجدٍ وقادرٍ لأن يعمل ، وبذلك تقلُّ البطالة . وقد تكون أنت صاحب المال لكنك لا تفهم أسرار التجارة والصناعة ، فتشارك مَنْ يفهم في التجارة أو الصناعة ، وبذلك تفتح أبواب فرص عمل لمن لا عمل له وقادر على إدارة العمل . هذه هي إرادة الحق سبحانه وتعالى في أن يجعل من تكامل المواهب نماءً وزيادة ، تكامل مواهب الوَجْد - النقود - ومواهب الجَهْد ، وبين الوجد والجهد تنشأ الحركة ، ويتفق صاحب المال مع صاحب الجهد على نسب الربح حسب العرض والطلب لأن كل تبادل إنما يخضع لهذا الأمر - العرض والطلب - لأن مثل هذا التعاون بين الواجد والقادر ينتج سلعة ، والسلعة لا هَوًى لها ، ولكن من يملك السلعة ومن يشتري السلعة لهما هوى ، فمالكُ السلعة يرغب في البيع بأعلى سعر ، ومن يرغب في شراء السلعة يريدها بأقل سعر ، لكن السلعة نفسها لا هوى لها . وما دام العرض والطلب هو الذي يتحكَّم في السلع ، فهذا توازن في ميزان الاقتصاد . وعلى سبيل المثال : إن عُرضت اللحوم بسعر مرتفع ، فكبرياء الذات في النفس البشرية تدفع غير القادر لأن يقول : إن تناول اللحم يرهقني صحيّاً . ويتجه إلى الأطعمة الأخرى التي يقدر على ثمنها لأن السلعة هي التي تتحكم ، أما إذا تدخل أحدٌ في تسعير السلع ، بأن اكتنز المال ، ولم يخرجه للسوق لاستثماره ، حينئذ تختفي قدرة الحركة لصاحب المال ، ولا يجد صاحب الموهبة مجالاً لإتقان صنعته . وقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ … } [ هود : 12 ] . فكلمة " لولا " - كما نعلم - للتمني ، وهم تمنوا الكنز أولاً ، ثم طلبوا مجيء مَلَك ، وكيف ينزل المَلَك ؟ أينزل على خِلقته أم على خِلْقته بأن يتجسد على هيئة رجل ؟ والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً … } [ الأنعام : 9 ] . وإن نزل المَلَك على هيئة رجل فكيف يتعرَّفون إلى أصله كمَلَك ؟ وهذا غباء في الطلب . وأيضاً قال الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 - 95 ] . ولو أنزله الحق سبحانه مَلَكاً فسوف يكون من نفس طبيعتهم البشرية ، وسوف يلتقي بهم ويتكلم معهم ، ولن يستطيعوا تمييزه عن بقية الناس وسوف يُكذِّبونه أيضاً . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه رَدًّا له عن هذا الطلب : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ … } [ هود : 12 ] . وهذا الكلام موجَّه من الله سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ليُلقِّنه الحجة التي يرد بها عليهم ، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه نذير وبشير ، وقد طلب غيركم الآيات ، وحين جاءت الآيات التي طلبوها لم يؤمنوا ، بل ظلُّوا على تكذيبهم فنكَّل الحق سبحانه بهم . إذن : فالعناد بالكفر لا ينقلب إلى إيمان بمجرد نزول الآيات ، والحق سبحانه هو القائل : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ … } [ الإسراء : 59 ] . أي : أن الآيات التي طلبها الكافرون لم يأت بها الله سبحانه لأن الأولين قد كذَّبوا بها ولذلك يبلغ الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم هنا بقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ … } [ هود : 12 ] . وهو صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه القرآن بالنذارة والبشارة . ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله : { … وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] . وأنت حين توكِّل إنساناً في البيع والشراء والهِبَة والنَّقل ، وله حرية التصرف في كل ما يخصك ، وترقب سلوكه وتصرُّفه ، فإنْ أعجبك ظللتَ على تمسكك بتوكيله عنك ، وإن لم يعجبك تصرُّفه فأنت تُلْغي الوكالة ، هذا في المجال البشري ، أما وكالة الله سبحانه وتعالى على الخَلْق فهي باقية أبداً ، وإن أبى الكافرون منهم . يقول الحق سبحانه بعد ذلك : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ … } .