Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 17-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود واجب الوجود ، وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لا بُدَّ له من واجد . وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة . والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجد بَعْراً مُلْقَى في الصحراء ، ورأى أثر قدم ، فقال : " البَعْرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير ؟ " . وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة ، وهي بيِّنة من الله . وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة ، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ . وفي ذلك يقول الحق سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ … } [ الأعراف : 172 ] . إذن : فالبيِّنة هي إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء . وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان ، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلاً تذكِّرنا بالبينات الأولى ، وتدلنا على العلل والأحكام حتى تنضمَّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن . وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله ، فقد يكون هذا الأمر مجهولاً للخلق ، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر حركة هذا الكون . وقد ضربت من قبل مثلاً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء ، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى ، ثم غلبه النوم فنام ، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب ، ووجد صواناً منصوباً ليأوي إليه فلا بد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤالٌ : من صنع هذا ؟ وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا ، خصوصاً وأنه لم يجد أحداً يقول له : أنت في ضيافتي . إذنْ : فلا بد أن يفكر بعقله . وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود ، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود ، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السماوات والأرض ، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان . وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا ، أن يفكر : من الذي صنع له كل ذلك ؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له : أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك . هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمراً يشغل باله . ومن لطف الله سبحانه بنا أنه لم يطلب منا مقدَّماً أن نفكر في ذلك ، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا ، لينعم الإنسان بخير ربه ، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج ، ولم يكن مكرهاً فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان . ولا بد للإنسان أن يتساءل : فكل شيء - مهما كان تافهاً - لا بد له من صانع ، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 متراً ، عرفنا صانعه ، ودرسنا المعامل التي أنجزته ، والإمكانات التي تم استخدامها ، والمواد التي صنع منها ، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس ، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار ، وتنير نصف الكرة الأرضية ؟ هذه مسألة كان يجب أن نبحثها لنرى آفاق تلك البينة ، بينة نور وقوة وفطرة ، يهبها الله للإنسان المفكر ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقاً مدبراً . فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له : إن خالق الدنيا هو الله تعالى ، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا ، كان أمراً منطقياً وطبيعياً أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات . إذن : فنحن نصل إلى المجهول أولاً بالفطرة ، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى شبهة ، فأنت حين ترى دخاناً تعتقد بالبديهة أن هناك ناراً ، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة ألا تعتقد أن هناك مياهاً ترويها ؟ هذه - إذن - أمور تعرفها بالبديهة ، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد . وهناك أمور قد تتطلب منك جهداً عقلياً تبحث به عما بعد المقدمات ، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلهاً خالقاً يُدير هذا الكون ، فاستدل من البعرة على وجود البعير ، وأن أثر القدم يدل على المسير ، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج ، والأرض ذات الفجاج ، والبحار ذات الأمواج ، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير . كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة ، وإن لم يعرف التفصيل . لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقاً ، صانعاً ، حكيماً ، لكنه لم يعرف اسماً له ، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل ، ولا يعرف أيضاً ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق ، وبماذا يجزي المطيع له ، ولا بماذا يعاقب العاصي له . إذن : لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة . والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقاً ، لكن لا يعرفون اسمه ، ولا مطلوبه . إذن : فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه ، عن طريق الوحي إلى رسوله ، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ . ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولاً ، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه ، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة ، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم . { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ … } [ هود : 17 ] . فالقرآن حجة ونور ، وهو يهدي البصيرة الفطرية الموجودة في الإنسان { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ … } [ هود : 17 ] وهو من أنزل عليه الوحي ، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه ، ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى . ونحن هنا أمام ثلاثة شهود : الشاهد الأول : هو الحجة والبينة . والشاهد الثاني : هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل ، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال . وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً … } [ هود : 17 ] . وهذا هو الشاهد الثالث . ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر فمن عنده تلك البينة ، ومن سمع الشاهد من الرسول ، والشاهد الذي قبله ، وهو كتاب موسى عليه السلام وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى لا بد أن يقوده ذلك إلى الإيمان . وقول الحق سبحانه : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ … } [ هود : 17 ] . إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة : بينة ، وشاهداً ، وشاهداً من قبله . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ … } [ هود : 17 ] . والكفر - كما علمنا - هو الستر ، والكفر في ذاته دليل على الإيمان ، فلا يكفر أحد بغير موجود . فوجود المكفور به سابق على الكفر ، والكفر طارىء عليه . إذن : فالكفر طارىء على الإيمان لأن الإيمان هو أصل الفطرة . { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ … } [ هود : 17 ] . وكلمة " أحزاب " جمع حزب . والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه ، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية ، وهي أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات ، وهم أحرار في ذلك لأنهم يتصارعون بفكر البشر . أما في العقيدة الأولى ، فَمنَ المُخطِّط الأعلى ، وهو الحق سبحانه وتعالى ، فالمنهج يأتي منه لأن هذا المنهج يوصل إليه لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه : { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ … } [ المجادلة : 22 ] . أي : أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ … } [ هود : 17 ] . والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان ، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل منهم جماعة تمثل حزباً ، ويقول عنهم الحق سبحانه : { … كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] . ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار ، وبذلك بيَّن لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين : حزب الله ، والأحزاب الأخرى ، وهما فريقان كلّ منهما مواجه للآخر . ويقول الحق سبحانه لرسوله ، والمراد أيضاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ . . } [ هود : 17 ] . أي : لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى ، والشاهد معك ، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق : { إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ … } [ هود : 17 ] . والحق - كما علمنا من قبل - هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير ، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { … وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] . وهؤلاء لا يؤمنون عناداً لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج ، ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند . والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً … } [ النمل : 14 ] . أي : أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى صدق بعثته ، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج ، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنساناً معانداً . يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً … } .