Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 85-85)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ … } [ هود : 84 ] . وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب ، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة لأنهما أمر واحد ، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما ، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري . وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1 - 3 ] . ذلك لأن البائع قد يقول لك : أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك ، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك وقد يفعل البائع عكس ذلك ، وفي مثل هذا بؤس للاثنين . وهنا يقول شعيب عليه السلام : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ … } [ هود : 85 ] . والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ … } [ هود : 85 ] . وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون ، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما ، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة ، أو يخطف ما ليس حقّاً له ، أو يغتصب ، أو يختلس ، وكلها أمور تعني : أخذ غير حق بوسائل متعددة . ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري ، أما الغصب ، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئاً ، فيقاومه صاحب الشيء ، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة ، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه ، والمرتشي هو من أخذ مالاً أو شيئاً مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها . إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ … } [ هود : 85 ] . تضم أشياء متعددة . والبخس هو أن تضر غيرك ضرراً ، بإنقاص حقه ، سواء أكان له حجم ، أو ميزان ، أو كَمٌّ ، أو كَيْفٌ . وكلمة " أشياء " مفردها : " شيء " ، ويقولون عن الشيء : " جنس الأجناس " فالثمرة يقال لها : " شيء " ، وكل الثمر يقال له : " شيء " . والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً . ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع ، وكلمة " أشياءهم " جمع أيضاً ، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً . أي : لا تبخس الفرد شيئاً ، وإنْ قَلَّ . ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر ، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به ، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه ، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة ليركبها ، فقال له واحد من الناس : لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود فأجاب العارف بالله : لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين ، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط . ونجد عارفاً آخر جلس يكتب كتاباً ، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة ، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب ، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار ، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له : أنا أخذت تراباً من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار : والله لِورَعِك لا أقوِّم ، أي : أنه قد تسامح في هذا الأمر . ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله : { … وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ هود : 85 ] . وكلمة عثا ، يَعْثي ، ويعثوا ، وعثى . يعثي كلها تعني : زاول فساداً ، أي : أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده ، مثل طَمْر بئر ماء ، أو حفر طريق يسير فيه الناس ، وهو كل أمر يخرج الصالح - في ذاته - عن صلاحه . والمجتمع كله - بكل فرد فيه - مأمور بعدم مزاولة الفساد ، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك لصار المجتمع كله صالحاً ، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد ، ولكنه هو نفسه يفسد ، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ … } .