Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 105-105)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وإذا سمعتَ " كأين " افهم أن معناها كثير كثير كثير بما يفوق الحَصْر ، ومثل " كأين " كلمة " كم " ، والعَدُّ هو مظنة الحصر ، والشيء الذي فوق الحصر تنصرف عن عَدِّه ، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً ، لكن كلاً منا يعُدُّ النقود التي يردُّها لنا البائع ، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه . إذن : فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعدِّه فوق الحصر ، ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها . ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية ، لإسباغ نعمه على خلقه ، ويقول : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا … } [ إبراهيم : 34 ] . و " إنْ " هي للأمر المشكوك فيه ، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله لأنها فوق الحصر ، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً ، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة ، ولم يحددها لأن أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا تُعَدُّ . إذن : فكلمة " كأين " تعني " كم " ، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه : كم نصحتك ؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل . وتأتي " كم " ويُراد بها تضخيم العدد ، لا منك أنت المتكلم ، ولكن ممَّنْ تُوجِّه إليه الكلام ، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً ، أو كأنك استحضرتَ النصائح ، فوجدتها كثيرة جداً . والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم ، وإما أن يُطلب من المخاطب وطلبُه من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه ، والإقرار سيد الأدلة . وحين يقول سبحانه : { وَكَأَيِّن } [ يوسف : 105 ] . فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير . وسبحان القائل : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] . وهكذا نفهم أن كأين تعني الكثير جداً الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه . والآيات هي جمع " آية " وهي الشيء العجيب ، المُلْفِت للنظر ويُقال : فلان آية في الذكاء . أي : أن ذكاءه مضرب المثل ، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين . ويُقال : فلان آية في الشجاعة وهكذا . ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف ، ولا يُنسَى . وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة ، ولكل منثور في الكون حكمة . وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث : الأول : هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها ، وهي عجائب وهي حُجَّة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لا بُدَّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدِّقة ، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه . وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون . وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها ، ولم يَقُلْ أحد غيره : " أنا الذي خلقت " فهذه المسألة - مسألة الخلق - تثبُت له سبحانه ، فهو الخالق وما سواه مخلوق ، وهذه الآيات قد خُلِقت من أجل هدف وغاية . وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون فيقول الحق سبحانه : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 17 - 25 ] . كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه طبقاً لنواميس عليا فيها سِرُّ بقاء حياته فيجب أن ينتبه إلى مَنْ أوجدها . وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى كان عليه أن يسأل : ماذا يريد منه هذا الخالق الأعلى ؟ هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد الأعلى ، وحينما يأتي رسول يقول لنا : إن مَنْ تبحثون عنه اسمه الله وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه . والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية ، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل ، فكان ولا بُدَّ أن يأتي كل رسول ومعه آية لتثبت صِدْق بلاغه عن الله لأن كل رسول هو من البشر ، ولا بد له من آية تخرق النواميس ، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل . وهناك آيات حُكْمية ، وهي النوع الثالث ، وهي الفواصل التي تحمل جُملاً ، فيها أحكام القرآن الكريم وهو المنهج الخاتم . وهي آياتٌ عجيبة أيضاً لأنك لا تجد حُكْماً من أحكام الدين إلا ويمسُّ منطقياً حاجة من حاجات النفس الإنسانية ، والبشر وإنْ كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها ، ولكن لا حَلَّ للمشكلات التي يواجهونها ، ولا تُحَلّ إلا بها . والمثل الواضح هو الطلاق ، وهم قد عَابُوا مجيء الإسلام به وقالوا : إن مثل هذا الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير من القسوة على الأسرة ، لكنهم لجأوا إليه بعد أن عضَّتهم أحداث الحياة ، وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه . وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وَضْع نظام ليتحللوا من الربا كله ، ويقولون : لا شيء يمنع العقل البشري من التوصُّل إلى ما يفيد . وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس ، والآيات المصاحبة للرسل هي معجزات خَرَقتْ النواميس ، وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام تَقِي الإنسان من الداء قبل أن يقع ، وتُجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها . وهم يُعرضون عن كل الآيات ، يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ دَقَّقوا فيها لَثبتَ لهم وجود إله خالق ولأخذوا عطاءً من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية ، وكل الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجةً لملاحظاتِ ظاهرةٍ ما في الكون . وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو ففكَّر وتساءل : لماذا يعلو غطاء القدر ؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمُّل ذلك ، واستنباط حقيقة تحوُّل الماء إلى بخار واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد ويحتاج إلى حَيِّزٍ اكبر من الحَيِّز الذي كان فيه قبل التمدد . وكان هذا التأمُّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات ، وبدأ عصر سُمِّى " عصر البخار " . وهذا الذي رأى طَفْوَ طبقٍ على سطح الماء وتأمّل تلك الظاهرة ، ووضع قاعدة باسمه ، وهي " قاعدة أرشميدس " . وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بِدِقَّة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا كما استفاد العالم من تأملات أرشميدس وغيره ممَّنْ قدَّموا تأملاتهم كملاحظات ، تتبعها العلماء ليصلوا إلى اختراعات تفيد البشرية . وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضِنُّ على الكافر بما يفيد العالم ما دام يتأمل ظواهر الكون ، ويستنبط منها ما يفيد البشرية . إذن فقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا … } [ يوسف : 105 ] . إنْ أردتها وسيلة للإيمان بإله فهي تقودك إلى الإيمان وإنْ أردتها لفائدة الدنيا فالحقُّ لم يبخل على كافر بأن يُعطِيه نتيجة ما يبذل من جهد . فكل المطلوب ألاّ تمُرَّ على آيات الله وأنت مُعرِض عنها بل على الإنسان أن يُقبِل إقبال الدارس ، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك وتعطيك حياة لا نهايةَ لها ، وهي حياة الآخرة ، أو تُسعِد حياتك وحياة غيرك ، بأن تبتكر أشياء تفيدك ، وتفيد البشرية . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ … } .