Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 2-2)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبالنسبة للقرآن نجد الحق - سبحانه - يقول : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومرة يقول : { نُزِّلَ … } [ محمد : 2 ] . والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة . أما قول الحق - سبحانه : { أُنْزِلَ … } [ البقرة : 91 ] . فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه مَكْنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم . هذا هو معنى الإنزال للقرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نزل من بعد ذلك نجوماً متفرقة ليعالج كل المسائل التي تعرَّض لها المسلمون . وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين . والحق - سبحانه - يقول : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ … } [ الإسراء : 105 ] . أي : أن الحق - سبحانه - أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم أنزله مفرقاً ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي . وفي هذه الآية يقول - سبحانه : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً … } [ يوسف : 2 ] . وفي الآية السابقة قال : { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ … } [ يوسف : 1 ] . فمرَّة يَصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء ، ومرَّة يَصِفه بأنه كتاب لأنه مسطور ، وهذه من معجزات التسمية . ونحن نعلم أن القرآن حين جُمِع ليكتب كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوباً ، ويشهد عليه اثنان من الحافظين . ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء ، أما السطور فمُثْبتة لا لَبْسَ فيها . وهو قرآن عربي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجاهر بالدعوة في أمة عربية ، وكان لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله ، وأن تكون مِمَّا نبغ فيه العرب لأن المعجزة مشروطة بالتحدي ، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم به صلة حتى لا يقولن أحد : نحن لم نتعلم هذا ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه . وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر ، وكانوا يجتمعون في الأسواق ، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوَّهين ، وكانت المباريات الآدائية تُقَام ، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال ، ويُنصَب لها الحكام . أي : أن الدُّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة ، محكوم عليها من الناس في الأسواق ، فَهُم أمة بيان وبلاغة وفصاحة . لذلك شاء الحق - سبحانه - أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب ، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن ، وحين يؤمن هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام ، بل بالمبادىء التي تطغى على مبادىء الفرس والروم . وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدِّية ليس لها قانون يجمعها ، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له ، بل كل قبيلة لها قانون ، وكلهم بَدْو يرحلون من مكان إلى مكان . وحين نزل فيهم القرآن عَلِم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المُبتدِّية قد امتلكتْ ما يبني حضَارة ليس لها مثيل من قَبْل ، رغم أن النبي أمِيٌّ وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية . وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحدَّاهم بما نبغُوا فيه ، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي ، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه . ويشاء الحق - سبحانه - أن ينزل القرآن عربياً لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا بلسان قومه ، فهو القائل : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ … } [ إبراهيم : 4 ] . وأُرسِلَ محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، الذي تميَّز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه بأنه كتاب ومعجزة في آنٍ واحد ، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صلى الله عليه وسلم مُنْفصلةً عن كُتب الأحكام التي أُنزِلَتْ إليهم . ويظلُّ القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أنْ تقومَ الساعة ، وما دام قد آمنَ به الأوائل وانساحوا في العالم ، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتابُ شاملاً ، يجذب كل مَنْ لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام . ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة ، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة مَنْ آمنوا به بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَشْدُوهِين بما فيه من نُظُمٍ تُخلِّصهم من متاعبهم . ففي القرآن قوانين تُسعِد الإنسانَ حقاً ، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم لم يفرط في شيء . وإذا قال قائل من المستشرقين : كيف تقولون : إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين رغم وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة " آمين " التي تُؤمِّنُون بها على دعاء الإمام كما توجد ألفاظ رومية ، وأخرى فارسية ؟ وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظاً مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم ، ثم دارتْ هذه الألفاظ على لسانه ، وصارت تلك الألفاظ عربية ، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ ، وندخل في لغتنا أيَّ لفظ نستعمله ويدور على ألسنتنا ، ما دُمْنا نفهم المقصود به . ويُذيِّل الحق - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] . ليستنهض همة العقل ، ليفكر في الأمر ، والمُنْصف بالحق يُهِمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل ، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً لينفُذَ من وراء العقل . وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما ، ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته . أما لو كانت الصَّنْعة غير جيدة ، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك لأنك حين تتدبر بعقلكَ الأمر تكتشف المُدلس وغير المُدلس لذلك فهو يدلس عليك ، ويُعمِّي عليك ، ولا يدع لك فرصة للتفكير . ويقول الحق - سبحانه - من بعد ذلك : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ … } .