Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 100-100)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى يتولونه : أي يتخذونه وَليّاً يطيعون أمره ، ويخضعون لوسوسته ، ويتبعون خطواته : { ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] . أي : مشركون بالله ، أو يكون المعنى : وهُمْ به أي بسببه أشركوا لأنه أصبح له أوامر ونواه وهم يطيعونه ، وهذه هي العبادة بعينها ، فكأنهم عبدوه من دون الله بما قدّموه من طاعته في أمره ونَهْيه . وقد سَمَّى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وَسْوسةً ، والوسوسة في الحقيقة هي صَوْت الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء ، فيُحدِث صوتاً رقيقاً فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس ، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين ، فإذا ما هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك بالمعصية تركك لها ، فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته . ولكن ، هل النفس لا تفعل المعصية إلا بوسوسة الشيطان ؟ قالوا : لا ، فالنفس - والمراد هنا النفس الأمّارة بالسوء - قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشيطان ، وقد يُوسْوِسُ الشيطان لها ، وينزغها نَزغاً ويُؤلِّبها ، ويُزِّين لها معصية ما كانت على بالها . فكيف - إذن - يُفرّق بين هاتين المعصيتين ؟ النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها ، وإذا قاومتَ نفسك ، وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة ألحَّتْ عليك بها ، وطلبتها بعينها ، فشهوة النفس إذن ثابتة لأنها تشتهي شيئاً واحداً تُلح عليه . ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك إلى أخرى لأنه يريدك عاصياً بأيِّ شكل من الأشكال ، فتراه يُزيِّن لك معصية أخرى وأخرى ، إلى أنْ ينال منك ما يريد . ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلاً - والعياذ بالله - فإنْ رفضتَ رشوة المال زيَّن لك رشوة الهدية ، وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيَّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة . وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة ضَعْف فيك ، إذن : فهو ليس كالنفس يقف بك عند شهوة واحدة ، ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أيِّ صورة من الصور . ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم كبير وصل به إلى صفوف الملائكة ، بل سَمَّوه " طاووس الملائكة " ، ويمكن أن نقف على شيء من علم الشيطان في دِقّة قَسَمه ، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يُغوي بني آدم ، فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب ، فلم يَقُلْ : بقوتي ولا بحجتي سأغوي الخَلْق ، بل عرف لله تعالى صفة العزة ، فهو سبحانه عزيز لا يُغلب لذلك ترك لخلْقه حرية الإيمان به ، فقال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . فالمعنى : فبعزتك عن خَلْقك : يؤمن مَنْ يؤمن ، ويكفر مَنْ يكفر ، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر ، ولكنني لا أجرؤ على الاقتراب ممَّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم ، لن أتعرَّضَ لعبادك المخلصين ، ولا دَخْلَ لي بهم ، ولا سلطان لي عليهم . كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه ، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللعين . فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلاً ، فقد كفاه أهلُها مشقة الوَسْوسة ، ووفّروا عليه المجهود ، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه ومُريحوه بما هم عليه من معصية الله ، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم . وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان ، وكان مشهوراً بالفِطْنة ، وعلى دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه ، وكل هذا جعل له باعاً طويلاً في الإفتاء ، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة : قال : يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا ، وجعلتُ عليه علامة ، فجاء السَّيْل وطمس هذه العلامة ، فلم أَهتدِ إليه ، فماذا أفعل ؟ فتبسَّم أبو حنيفة وقال : يا بُني ليس في هذا علم ، ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه القضية ؟ ! ولكني سأحتال لك . وفعلاً تفتقتْ قريحة الإمام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه ، قال له : إذا جئتَ في الليل فتوضّأ ، وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجِّداً . وفي الصباح أخبرني خبرك . وفي صلاة الفجر قابله الرجل مُبتسِماً . يقول : لقد وجدتُ المال ، فقال : كيف ؟ قال الرجل : حينما وقفتُ بين يديْ ربي في الصلاة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي ، فضحك الإمام وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ … } .