Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 68-68)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
النحل خَلْق من خَلْق الله ، وكل خَلْق لله أودع الله فيه وفي غرائزه ما يُقيم مصالحه ، يشرح ذلك قوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 2 - 3 ] . أي : خلق هذه كذا ، وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته ولذلك تجد ما دون الإنسان يسير على منهج لا يختلف … فالإنسان مثلاً قد يأكل فوق طاقته ، وقد يصل إلى حَدِّ التُّخْمة ، ثم بعد ذلك يشتكي مرضاً ويطلب له الدواء . أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته ، وأخذ ما يكفيه فلا يزيد عليه أبداً ، وإنْ أجبرته على الأكل ذلك لأنه محكوم بالغريزة الميكانيكية ، وليس له عقل يختار به . وضربنا مثلاً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائماً ويأخذونه مثلاً للغباء ، إذا سُقْتَه ليتخطى قناة ماء مثلاً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بدقة … فإذا ما وجدها في مقدوره قفزها دون تردد ، وإذا وجدها فوق طاقته ، وأكبر من قدرته تراجع ولم يُقدِم عليها ، وإنْ ضربتَه وصِحْتَ به … فلا تستطيع أبداً إجباره على شيء فوق قدرته . ذلك لأنه محكوم بالغريزة الآلية التي جعلها الله سبحانه فيه ، على خلاف الإنسان الذي يفكر في مثل هذه الأمور ليختار منها ما يناسبه ، فهذه تكون كذا ، وهذه تكون كذا ، فنستطيع أن نُشبِّه هذه الغريزة في الحيوان بالعقل الألكتروني الذي لا يعطيك إلا ما غذَّيته به من معلومات … أما العقل البشري الرباني فهو قادر على التفكير والاختيار والمفاضلة بين البدائل . يقول الحق سبحانه : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ … } [ النحل : 68 ] . الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان ، فيستطيعون التفاهم معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلام … والله سبحانه الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها ما يشاء … فما هو الوحي ؟ الوحي : إعلام من مُعْلِم أعلى لمُعْلَم أدنى بطريق خفيّ لا نعلمه نحن ، فلو أعلمه بطريق صريح فلا يكون وَحْياً . فالوَحْي إذنْ يقتضي : مُوحِياً وهو الأعلى ، ومُوحَىً إليه وهو الأَدْنَى ، ومُوحًى به وهو المعنى المراد من الوَحْي . والحق - تبارك وتعالى - له طلاقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من خَلْقه … وقد أوحى الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 1 - 5 ] . أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه . وهنا أوحى سبحانه إلى النحل . وأوحى الله إلى الملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ الأنفال : 12 ] . وأوحى إلى الرسل : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ … } [ النساء : 163 ] . وأوحى إلى المقربين من عباده : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي … } [ المائدة : 111 ] . وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تمرُّ بقلوبهم وأوحى سبحانه إلى أم موسى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ … } [ القصص : 7 ] . هذا هو وَحْي الله إلى ما يشاء من خَلْقه : إلى الملائكة ، إلى الأرض ، إلى الرسل ، إلى عباده المقرّبين ، إلى أم موسى ، إلى النحل … الخ . وقد يكون الوحي من غيره سبحانه ، ويُسمَّى وَحْياً أيضاً ، كما في قوله تعالى : { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ … } [ الأنعام : 121 ] . وقوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً … } [ الأنعام : 112 ] . لكن إذا أُطلِقَتْ كلمة الوَحْي مُطْلقاً بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من الله إلى الرسل لذلك يقول علماء الفقه : الوحي هو إِعلامُ الله نبيه بمنهجه ، ويتركون الأنواع الأخرى : وَحْي الغرائز ، وَحْي التَكوين ، وَحْي الفطرة … الخ . وقوله : { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] . كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم ، ومن هؤلاء باحث تتبّع المراحل التاريخية للنحل ، فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال ، ثم اتخذ الشجر ، وجعل فيها أعشاشه ، ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر ، وهي ما نعرفه الآن باسم الخلية الصناعية أو المنحل ، ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث لا يعرف القرآن الكريم ، ومع ذلك فقد تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق . وكذلك توصَّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال ، وقد تَوصَّلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون ، ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصّل إلى عمره … وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل ، ثم عسل الشجر ، ثم عسل الخلايا والمناحل . إذن : أوحى الله تعالى إلى النحل بطريق خفيّ لا نعلمه نحن ، وعملية الوحي تختلف باختلاف الموحِي والموحَى إليه ، ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن الذي ينظر إليه سيده مُجرد نظرة فيفهم منها كل شيء : أهو يريد الشراب ؟ أم يريد الطعام ؟ أم يريد كذا ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ كُلِي مِن … } .