Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 106-106)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { فَرَقْنَاهُ } أي : فصّلناه ، أو أنزلناه مُفرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث { عَلَىٰ مُكْثٍ } على تمهُّل وتُؤدَة وتأنٍّ . وقد جاءت هذه الآية للردِّ على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة ، كما قال تعالى حكاية عنهم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً … } [ الفرقان : 32 ] . وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم ، وأبان ما هُمْ فيه من تناقض ، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن . وها هم الآن يُقِرُّون بأنه نزل عليه ، أي : من جهة أعلى ، ولا دَخْلَ له فيه ، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن ، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن . ثم يتولّى الحق سبحانه الردّ عليهم في هذا الاقتراح ، ويُبيِّن أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن ، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية : 1 - : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ الفرقان : 32 ] . { كَذَلِكَ } أي : أنزلناه كذلك على الأمر الذي تنتقدونه من أنه نزل مُفرّقاً مُنجّماً حسْب الأحداث { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ الفرقان : 32 ] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتعرّض لكثير من تعنّتات الكفار ، وسيقف مواقف مُحرِجة من تعذيب وتنكيل وسخرية واستهزاء ، وهو في كل حالة من هذه يحتاج لتثبيت وتسلية . وفي نزول الوحي عليه يَوْماً بعد يَوْم ، وحسْب الأحداث ما يُخفّف عنه ، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومَشَاقِّ الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمَنْ بعثه وأرسله ، أما لو نزل القرآن جملةً واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة ، ولَفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي ، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله . 2 - { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] أي : نَزَّلْنَاه مُرتّلاً مُفرّقاً آيةً بعد آية ، والرتل : هو المجموعة من الشيء . كما نقول : رتل من السيارات ، وهكذا نزل القرآن مجموعة من الآيات بعد الأخرى ، وهذه الطريقة في التنزيل تُيسِّر للصحابة حِفْظ القرآن وفَهْمه والعمل به ، فكانوا رضوان الله عليهم يحفظون القدر من الآيات ويعملون بها ، وبذلك تيسَّر لهم حفظ القرآن والعمل به ، فكانت هذه الميْزَة خاصة بالصحابة الذين حفظوا القرآن ، وما زلنا حتى الآن نُجزِّئ القرآن للحفظة ، ونجعله ألواحاً ، يحفظ اللوح تلو الآخر . 3 - { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] . وهذه للمخالفين لرسول الله ، وللمعاندين لمنهج الله الذين سيعترضون عليه ، ويحاولون أن يستدركوا عليه أموراً ، وأن يتهموا رسول الله ، فلا بُدَّ من الردّ عليهم وإبطال حُجَجهم في وقتها المناسب ، ولا يتأتّى ذلك إذا نزل القرآن جملة واحدة . { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بشيء عجيب يستدركون به عليك { إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } أي : ردّاً عليهم بالحق الثابت الذي لا جدالَ فيه . وإليك أمثلة لِردِّ القرآن عليهم رَدّاً حيّاً مباشراً . فلما اتهموا رسول الله وقالوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] رَدَّ القرآن عليهم بقوله تعالى : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] والمسحور لا يكون أبداً على خُلق عظيم . ولما قالوا : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ … } [ الفرقان : 7 ] يردُّ القرآن عليهم بقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ … } [ الفرقان : 20 ] . فليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً في هذه المسألة ، فهو كغيره من الرسل الذين عُرِفت عنهم هذه الصفات ، وفي هذا ما يؤكد سلامة الأُسْوة في محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه بشر مثل الذين أرسلنا إليهم من قبله ، إنما لو كانت في محمد خاصية ليست في غيره ربّما اعترضوا عليها واحتجُّوا بها . لذلك كان من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ومع صحابته أنه قال : " إنما أنا بشر يرد عليَّ - أي بالوحي - فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " . فانظر إلى أيّ حدٍّ كان تواضعه صلى الله عليه وسلم ؟ ولما اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ … } [ سبأ : 8 ] فردّ عليهم الحق سبحانه بقوله : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] . ثم يتنزّل معهم في هذا التحدي ، ويترأف بهم : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ … } [ البقرة : 23 ] . ثم يناقشهم في هذه المسألة بهذا الأدب الرفيع والنموذج العالي للحوار : { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ] . وفي آية أخرى يقول : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] . فانظر إلى هذا الأدب : رسول الله حين يتحدّث عن نفسه يقول { أَجْرَمْنَا } وحين يتحدث عن أعدائه لا ينسب إليهم الإجرام ، بل يقول : { وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } . هذا كله من الحق الذي جاء به القرآن ليردّ عن رسول الله اتهامات القوم ، وبالله لو نزل القرآن جملةً واحدة ، أكان من الممكن الردُّ على هذه الاتهامات ومجادلة القوم فيما يُثيرونه من قضايا ؟ وإنْ كانت هذه الأمثلة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرئة ساحته في مجال الدعوة إلى الله ، فهناك أيضاً ما يتعلق بالأحكام والتشريع ، فالقرآن نزل بالعقائد والأحكام والتشريعات ، ونزل ليكون دائماً ثابتاً لا يتغير إلى يوم القيامة ، ولن يُنسَخ منه حرف واحد كما حدث في الكتب السابقة عليه . فإن نظرتَ إلى العقائد وجدتَ الكلام فيها قاطعاً لا هوادةَ فيه ، يأتي هكذا قَوْلاً واحداً ، فالله واحد أحد لا شريك له ، له صفات الكمال المطلق ، وكذلك الحديث عن الملائكة والبَعْث والحساب . لكن تجد الأمر يختلف في الحديث عن العادات التي أَلِفها الناس في حركة الحياة ، فهذه أمور تحتاج إلى تلطُّف وتدرُّج ، ولا يناسبها القصْر والقَطْع . ألم تَرَ إلى المشرّع سبحانه حينما أراد أنْ يُحرِّم الخمر ، كيف تدرّج في تحريمها على عدة مراحل حتى يجتثّ هذه العادة التي تحكّمتْ في نفوس الناس وتملَّكتهم ، أكان يمكن معالجة هذه المسألة بهذه الطريقة إذا نزل القرآن جملة واحدة ؟ انظر كيف لفتَ أنظارَ القوم بلُطْف إلى أن في الخمر شيئاً ، فقال تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً … } [ النحل : 67 ] . ولما سمع بعض الصحابة هذه الآية قال : والله لكأن الله يُبيِّت للخمر شيئاً ، لقد فهم بملكته العربية أن الله تعالى طالما وصف الرزق بأنه حسن ، وسكت عن السَّكَر فلم يَصِفْه بالحُسْن ، فإن وراء هذا الكلام أمراً في الخمر لأنه يتلف نعمة الله ويُفسِدها على أصحابها . ثم يُحَوِّل هذه المسألة إلى عِظَة وإرشاد ، فيقول : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا … } [ البقرة : 219 ] . وهكذا قرَّر لهم الحقيقة بعد أن سألوا هم عنها ، وترك لهم حرية الاختيار ، فالأمر ما زال عِظَة ونصيحة لا تشريعاً مُلْزماً ، إلا أنه مهَّد الطريق للقطع بتحريمها بعد ذلك . ثم حدث من أحدهم أن صلّى وهو مخمور لا يدري ما يقول ، فلما سمعوه يقول : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، فغمزه مَنْ بجواره وعرف أنه مخمور ، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ … } [ النساء : 43 ] . وبذلك أطال مدَّة الامتناع عن شُرْب الخمر ، فالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ، فإذاً لا بُدَّ من الامتناع عن الخمر قبل الصلاة بوقت كافٍ ، وهكذا عوَّدهم الامتناع ودرَّبهم على الصبر عن هذه الآفة التي تمكَّنتْ منهم . ثم يتحيَّن الحق سبحانه فرصة منهم ، حيث اجتمع القوم في مجلس من مجالس الشراب ، ولما لعبتْ الخمر بالعقول تشاجروا حتى سالتْ دماؤهم ، وعندها ذهبوا بأنفسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه : يا رسول الله بيِّن لنا في الخمر رأياً شافياً ، وهنا ينزل الوحي على رسول الله بالحكم القاطع : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ … } [ المائدة : 90 ] . فكيف كانت معالجة هذه الآفة التي تمكّنتْ من الناس لو نزل القرآن جملة واحدة ؟ إن الحق تبارك وتعالى بنزول القرآن مُفَرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث ، كأنه يُجري مشاركة بين آيات التنزيل والمنفعلين بها الذين يُصِرّون على تنفيذ مطلوباتها ، حتى إنهم ليبادرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يبدأوه بالسؤال ، كما قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ … } [ المائدة : 101 ] . ولكنهم مع هذا تغمزهم المسألة فيبادرون بها رسول الله ، كما حكى القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ … } [ البقرة : 219 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ … } [ البقرة : 219 ] . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } [ البقرة : 189 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ … } [ طه : 105 ] . إذن : وراء نزول القرآن مُفرّقاً مُنجّماً حِكَم بالغة يجب تدبُّرها ، هذه الحِكَم ما كانت لتحدث لو نزل القرآن جملةً واحدةً . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ … } .