Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 111-111)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فما المحمود عليه في الآية ؟ الحق سبحانه يقول : { ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً … } [ الإسراء : 111 ] . فكَوْنه سبحانه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أنْ يحمدوه عليها ، فإنْ كان له ولد فسوف يخصُّه برعايته دون باقي الخَلْق ، فقد تنزّه سبحانه عن الولد ، وجعل الخَلْق جميعهم عياله ، وكلُّهم عنده سواء ، فليس من بينهم مَنْ هو ابن لله أو مَنْ بينه وبين الله قرابة ، وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم له ، وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته . ثم ، ما الحكمة من اتخاذ الولد ؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذَّكَر ، خاصة لأمرين : أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته ، كما قال الشاعر : @ أَبُنيّ يَا أنَا بَعْدَمَا أقْضِي @@ والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائمٌ ، فلا يحتاج لمَنْ يُخلِّد ذكراه ، أو يكون امتداداً له ، تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً ، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً . أو يكون الولد للعِزْوة والمكاثرة والتقوّى به من ضعف ، والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار ، فلا يحتاج إلى عِزْوة أو كثرة ، لذلك يأمرنا سبحانه أن نُمجِّده لأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، والمتأمل في حال الملوك والسلاطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة . ثم يقول سبحانه : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ … } [ الإسراء : 111 ] . وهذا أيضاً من النعم التي تستوجب الحمد ، ولك أنْ تتصوّر لو أن لله تعالى شريكاً في الملْك ، كم تكون حَيْرة العباد ، فأيُّهما تُطيع وأيهما تُرضِي ؟ لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً … } [ الزمر : 29 ] . لذلك ، ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون : المركب التي بها ريسين تغرق وكَوْنه سبحانه واحداً لا شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره ونَهْيه فتُطيعه وأنت مطمئن ، فأوامره سبحانه نافذة لا مُعقِّب لها ، ولا مُعترِض عليها ، فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف ، أليست هذه نعمة تستوجب الحمد ؟ وأيضاً فإن الحق سبحانه يقول : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ … } [ الإسراء : 111 ] . الوليّ : هو الذي يليك ، وأنت لا تجعل أمرك إلا لمن تثق به أنه يجلب لك نَفْعاً ، أو يدفع عنك ضُرّاً ، أو ينصرك أمام عدو ، أو يُقوِّي ضعفك ، فإذا لم يكُنْ لك ذاتية تحقق بها ما تريد تلجأ لمن له ذاتية ، وتحتمي برحابه ، وتجعل ولاءك له . والحق سبحانه ليس له وليٌّ يلجأ إليه ليعزه لأنه سبحانه العزيز المعِزّ القائم بذاته سبحانه ، ولا حاجة له إلى أحد . ثم يقول تعالى : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [ الإسراء : 111 ] . لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء ، وأكبر من كل كبير لذلك جُعلتْ الله أكبر شعار أذانك وصلاتك ، فلا بُدَّ أن تُكبِّر الله ، وتجعله أكبر مِمّا دونه من الأغيار ، فإنْ ناداك وأنت في أيّ عمل فقُلْ : الله أكبر من عملي ، وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم ، فقل : الله أكبر من أيِّ عظيم ، كبِّره تكبيراً بأن تُقدِّم أوامره ونواهيه على كُلِّ أمر ، وعلى كل نَهْي . ولا تنسَ أنك إن كبَّرْتَ الحق سبحانه وتعالى أعززْتَ نفسك بعزة الله التي لا يعطيها إلا لمَنْ يُخلص العبودية له سبحانه ، فَضْلاً عن أن العبودية لله شرفٌ للعبد ، وبها يأخذ العبد خَيْر سيده ، أما العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة ، وهي مذلة وهوان ، حيث يأخذ السيد خير عبده . وصدق الشاعر حين قال : @ حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يَحْتفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ أَنَا ألْقَى متَى وأَينَ أحِبُّ @@ فكم تتحمل من المشقة والعنت في مقابلة عظيم من عظماء الدنيا ، أما في مقابلة رب العزة سبحانه ، فبمجرد أنْ آمنتَ به أصبح الزمام في يدك تلقاه متى شئتَ ، وفي أيِّ مكان أردتَ ، وتُحدّثه في أيّ أمر أحببتَ ، فأيُّ عِزَّة بعد هذا ؟ ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج أنه عبد لله ، حيث قال تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا … } [ الإسراء : 1 ] . فالعزة في العبودية لله ، والعزة في السجود له تعالى ، فعبوديتك لله تعصمك من العبودية لغيره ، وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيره ، أَلاَ ترى قول الشاعر : @ وَالسُّــجُودُ الذِي تَجْـتَوِيه مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةٌ @@ إذن : فكبِّر الله تكبيراً وعَظِّمه ، والتجئ إليه ، فَمن التجأ إلى الله تعالى كان في معيته ، وأفاض عليه الحق من صفاته ، وعصمه من كَيْد الآخرين وقهرهم . وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالولد الصغير الذي يعتدي عليه أقرانه إنْ سار وحده ، فإنْ كان في يد أبيه فلا يجرؤ أحد على الاعتداء عليه . فعليك - إذن - أن تكون دائماً في معيّة ربك تأمن كيد الكائدين ومكْر الماكرين ، ولا ينالك أحدٌ بسوء ، فإن ابتلاه الله بشيء فكأنما يقول له : أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي ، لأن الصحيح المعَافَى إنْ كان في معية نعمة الله ، فالمبتلى في معية الله ذاته . ألم يَقُلْ الحق سبحانه في الحديث القدسي : " يا بن آدم مرضْتُ فلم تَعُدْني ، قال : يا رب وكيف أعودك وأنت ربُّ العالمين ؟ فيقول : أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه ، أما علمتَ أنك لو عُدْتَهُ لوجدتني عنده " . فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفاً من آلامه ومواساة له في شدته ، ما باله إن أنس بالله وكان في جواره وكلاءته ، والله الذي لا إله إلا هو لا يشعر بوخْز المرض أبداً ، ويستحي أن يتأوّه من ألم ، ولا ييأس مهما اشتد عليه البلاء لأنه كيف يتأوه من معية الله ؟ وكيف ييأس والله تعالى معه ؟ إذن : كبِّره تكبيراً . أي : اجعل أمره ونَهْيه فوق كل شيء ، وقُلْ : الله أكبر من كل كبير حتى الجنة قل : الله أكبر من الجنة . أَلاَ ترى قَوْل رابعة العدوية : @ كُلُّهُمْ يعبدُونَك من خَوْف نارٍ ويَروْن النجاةَ حَظّاً جَزِيلا أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنَانَ فَيَحْظَوْا بقُصُورٍ ويَشْرَبُوا سَلْسَبِيلا لَيْسَ لِي بالجنانِ وَالنَّارِ حَظٌّ أنَا لاَ أَبْتغِي بِحُبّي بَدِيلاً @@ وفي الحديث القدسي : " أَولَوْ لَم أخلق جنة وناراً ، أما كنتُ أهلاً لأنْ أُعبد ؟ " . فالله تعالى بذاته سبحانه أكبر من أيّ شيء ، حتى إن كانت الجنة ، ففي آخر سورة الكهف يقول تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] . فلم يَقُلْ : مَنْ كان يرجو جزاء ربه ، أو جنة ربه ، أو نعيم ربه ، إن المؤمن الحق لا ينظر إلى النعيم ، بل يطمع في لقاء المنعِم سبحانه ، وهذا غاية أمانيه . وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملائكة : " أما رأيتم عبادي ، أنعمتُ عليهم بكذا وكذا ، وأسلب عنهم نعمتي ويحبونني " . وبهذه الآية خُتِمَتْ سورة الإسراء ، فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم الثلاث ، وليس هذه هي كل نعم الله علينا ، بل لله تعالى علينا نِعَم لا تُعَدّ ولا تُحصَى ، لكن هذه الثلاث هي قِمة النعم التي تستوجب أنْ نحمده عليها . فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً لأنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد ، والحمد لله الذي لم يتخذ شريكاً لأنه واحد ، والحمد لله الذي لم يكُنْ له وليٌّ من الذل لأنه القاهر العزيز المعز ، ولهذا يجب أن نُكبِّر هذه الإله تكبيراً في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه .