Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 35-35)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع ، هذه القضية هي التي تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة ، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التي تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم . وبذلك ييأس الكسول الخامل ، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط ، وأنه إنْ تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل ، وبذلك تزداد طاقة العمل ويَرْقى المجتمع ويسعد أفراده . صحيح في المجتمع الإيماني إيثار ، لكنه الإيثار الإيجابي النابع من الفرد ذاته ، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغَصب فلا مجال لها في هذا المجتمع لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد . وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أَوْلَى بهذه المحاربة . فما دُمْتَ قادراً على العمل فيجب أن تعمل ، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس ، ولهم حَقٌ مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعاً ، وهذا هو التأمين الذي يكفله الإسلام لكل محتاج . لذلك نقول للغني الذي يسهم في سَدَّ حاجة الفقير : لا تتأفف ولا تضجر إنْ أخذنا منك اليوم لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدتَ وجمعتَ هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك ، بل هي هِبَة من الله يمكن أنْ تُنزعَ منك في أي وقت ، وتتبدَّل قوتك ضعفاً وغِنَاك حاجة ، فإنْ حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونُؤمِّن لك مستقبلك . لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً ، يعمل ويكدح ويُسهِم في رُقيّ الحياة وإثرائها ، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول لأن المجتمع الإيماني لا يُسوِّي بين العامل والقاعد ، ولا بين النشيط والمتكاسل . وهَبْ أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسَعَى فيه بجدّ وعمل على تنميته ، أما الآخر فكان مُسْرفاً مُنحرفاً بدَّد كل ما يملك وقعد مُتحسّراً على ما مضى ، فلا يجوز أنْ نُسوِّي بين هذا وذاك ، أو نأخذ من الأول لنُعطيَ للآخر ، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول - إذا أخذتْ ما ليس لها حمّلها الله ما ليس عليها . ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غِنَاه ثمرة عمله وكَدِّه ونتيجة سعيه ، وطالما أنه يسير في ماله سَيْراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع ، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب ، وبكل ما لديه من طموحات الحياة لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى . فدَعْه يجتهد ، وإنْ كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضاً ، والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع . لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً ، فكم من العمال والصناع ، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع ؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قُوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء . إذن : علينا أنْ ندعَ الغني يجتهد ويسعى لأن المجتمع سوف يستفيد من سَعْيه واجتهاده ، وما عليك إلا أن تراقبه ، فإنْ كان سعيُه في الحق فبها ونعمتْ ، وإنْ كان في غير الحق فلتضرب على يده . وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها ، يقول تعالى : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ … } [ الإسراء : 35 ] . والحديث هنا لا يخصُّ الكيْل فقط ، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً ، والتي تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الأشياء كُلٌّ على حَسْبه ، فالكتاب مثلاً يُقَاس بالسنتيمتر ، والحجرة تُقَاس بالمتر ، أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر وهكذا . إذن : فالتقدير الطُّولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه . هذا في الطوليات ، أما في المساحات فيأتي الطول والعرض ، وفي الأحجام : الطول والعرض والارتفاع . وفي الكُتَل يأتي الميزان . إذن : فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيْل الذي يُبيِّن الأحجام ، وبالميزان الذي يُبيّن الكتلة لأن الكيْل لا دخلَ له في الكتلة ، إنما الكتلة تُعرف بالميزان ، بدليل أن كيلو القطن مثلاً أكبر بكثير من كيلو الحديد . ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً لذلك يقول تعالى : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ … } [ الإسراء : 35 ] يعني : أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص . وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1 - 3 ] . ومعنى المطففين الذين يزيدون ، وهؤلاء إذا اكتالوا على الناس ، أي : أخذوا منهم . أخذوا حَقَّهم وافياً ، وهذا لا لَوْم عليه ، وإنما اللوم على : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] . أي : إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم { يُخْسِرُونَ } أي : ينقصون . هذا هو موضع الذمِّ ومجال اللوْم في الآية لأن الإنسان لا يُلام على أنه استوفى حَقَّه ، بل يُلام على أنه لم يُسَوِّ بينه وبين الآخرين ، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به . ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكَيْل والميزان فحسب ، لكنه أيضاً في السعر ، فالبائع الذي ينقصك الكيلو عشرين جراماً مثلاً فقد بخسَك في الوزن ، وطفَّف عليك في الثمن أيضاً . ثم يقول تعالى : { وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ … } [ الإسراء : 35 ] أي : اجعلوا الوزن دقيقاً مستقيماً لا جَوْرَ فيه . والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حَقَّه ، هكذا : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ . . } [ الإسراء : 35 ] . أما في الوزن فقد ركز على دِقَّته ، وجَعَله بالقسطاس ، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم ، إذن : لماذا هذه الدِّقة في الميزان بالذات ؟ لو نظرتَ إلى عملية الكيْل لوجدتها واضحة مكشوفة ، قَلَّما يستطيع الإنسان الغِشَّ فيها ، وكثيراً ما ينكشف أمره ويُعلَم تلاعبه لأن الكيْل أمام الأعين والتلاعب فيه مكشوف . أما الوزن فغير ذلك ، الوزن مجال واسع للتلاعب ، ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها الوزن دون أن يدري بهم أحد لأن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الأول ، عبارة عن محور ارتكاز في الوسط ، وكِفَّة القوة في ناحية ، وكِفَّة المقاومة في الناحية الأخرى ، فأيُّ نَقْص في الذراعين يفسد الميزان ، وأيُّ تلاعب في كِفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان . ولو تحدثنا عن ألاعيب البائعين في أسواقنا لطال بنا المقام لذلك أكد الحق سبحانه وتعالى على الدقة في الميزان خاصة لأنه مجال واسع للغشِّ والخداع وأَكْل أموال الناس . وسبق أن أوضحنا أن ميزان كُلِّ شيء بحسبه ، ويتناسب مع قيمته ونفاسته ، فالذي يزن الجير مثلاً غير الذي يزن اللوز ، غير الذي يزن الذهب أو الألماس لذلك من معاني القسطاس المستقيم أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون ، فالذي يبيع الذهب مثلاً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قليلة في الميزان فإنها تساوي الكثير من المال . لذلك فإن أهل الخبرة في هذه المسألة يقولون : احذر أن يُدخِل البائع رأسه قريباً من الميزان لأنه قد ينفخ في كِفَّة الميزان ، ولا شكَّ أنك ستخسر كثيراً من جَرَّاء هذه النفخة ! ! لذلك نقول لهؤلاء الذين أخذت أيديهم على الغش والخداع في البيع والشراء : أنت تبيع للناس شيئاً واحداً وتغشهم فيها ، وفي الوقت نفسه تشتري أشياء كثيرة من متطلبات الحياة ، فاعلم جيداً أنك إنْ غششْتَ الناس في سلعة واحدة فسوف تُغشّ في مئات السلع ، وأنت بذلك خاسر لا محالة . مهما دارت بك الأوهام والظنون فحسبت أن المسألة في صالحك . ولا تنسَ أن فوقك قيُّوماً ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا تخفى عليه من أمرك خافية ، وسوف يُسلِّط عليك مَنْ يسقيك بنفس كأسك إلى أنْ تتبينَ لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة لأنك إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء ، وسوف تذهب هذه الأموال التي اختلستها من أقوات الناس من حيث أتت ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " . وكذلك في المقابل : مَنْ صدق الناس ، ووفّى لهم في بيعه وشرائه وتعاملاته يسَّر الله له مَنْ يُوفِّي له ويصدُق معه . ثم يقول تعالى : { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] . { ذٰلِكَ } أي : الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن { تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ، ومعنى ذلك أن المقابل له ليس خيراً ولا أحسن عاقبة . فالذي يغش الناس ويخدعهم يظن أنه بغشِّه يزيد في ماله ويجلب الخير لنفسه . نقول له : أنت واهم ، فليس في الغش والبخس خير والزيادة عن طريقه هي عين النقص ، لأن الحق سبحانه وتعالى سيُجرِّئ الناس عليك فيغشوك ، هذه واحدة ثم لا يلبث الناس أن يكتشفوا تلاعبك في الكيل والميزان فينصرفون عنك ويقاطعونك . إذن : عدم الوزن بالقِسْطاس المستقيم لا هو خَيْر ، ولا هو أحسن عاقبة . أما التاجر الصادق الذي يُوفِي الكيل والميزان ، فإن الله تعالى يُيَسِّر له من يُوفِي له الكَيْل والميزان ، وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته ، فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه . وهذا هو المراد بقوله تعالى : { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] أي : أحسن عاقبة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ … } .