Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 53-53)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين عبيد وعباد ، وأنهما جَمْع عبد ، لكن عبيد تدل على مَنْ خضع لسيّده في الأمور القهرية ، وتمرَّد عليه في الأمور الاختيارية ، أما عباد فتدلّ على مَنْ خضع لسيده في كُلِّ أموره القهرية والاختيارية ، وفضَّل مراد الله على مُرَاده ، وعنهم قال تعالى : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 63 - 64 ] . وهذا الفَرْق قائم بينهما في الدنيا دون الآخرة ، حيث في الآخرة تنحلّ صفة الاختيار التي بنينا عليها التفرقة ، وبذلك يتساوى الجميع في الآخرة ، فكلهم عبيد وعباد لذلك قال تعالى في الآخرة للشيطان : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } [ الفرقان : 17 ] . فسمَّاهم عباداً رغم ضلالهم وكفرهم . وقوله تعالى : { يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ الإسراء : 53 ] . أي : العبارة التي هي أحسن ، وكذلك الفِعْل الذي هو أحسن . والمعنى : قُلْ لعبادي : قولوا التي هي أحسن يقولوا التي هي أحسن لأنهم مُؤتمرون بأمك مُصدِّقون لكَ . و { ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } تعني : الأحسن الأعلى الذي تتشقَّق منه كُل أَحْسَنيات الحياة ، والأحسن هو الإيمان بالله بشهادة أن لا إله إلا الله ، هذه أحسن الأشياء وأولها ، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول : " خَيْرُ ما قُلْتُه أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله " . لأن من باطنها ينبتُ كل حسن ، فهي الأحسن الكبيرة لأنك ما دُمْتَ تؤمن بالله فلن تتلقّى إلا عنه ، ولن تخاف إلا منه ، ولن ترجوَ إلا هو ، وهكذا يحسُن أمرك كلُّه في الدنيا والآخرة . وأنت حين تقول : لا إله إلا الله ، لا تقولها إلا وأنت مؤمن بها لأنك تريد أنْ تُشِيِعها فيمن سمعك ، ولا تكتفي بنفسك فقط ، بل تحب أنْ يُشاركك الآخرون هذا الخير لذلك إذا أردنا أن ننطقَ بهذه الكلمة نقول : أشهد أن لا إله إلا الله . فمعنى أشهد يعني عند مَنْ لم يشهد ، فكأن إيمانك بها دَعاك إلى نَقْلها إلى الناس ، وبثِّها فيما بينهم . ويمكن أن نقول { ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الأحسن هو : كل كلمة خير ، أو الأحسن هو : الجدل بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] . أو نقول : الأحسن يعني التمييز بين الأقوال المتناقضة وفَرْزها أمام العقل ، ثم نختار الأحسن منها ، فنقول به . فالأحسن - إذن - تَشيُع لتشمل كُلَّ حَسَن في أيِّ مجال من مجالات الأقوال أو الأفعال ، ولنأخذ مثلاً مجال الجدل ، وخاصة إذا كان في سبيل إعلاء كلمة الله ، فلا شكّ أن المعارض كَارِهٌ لمبدئك العام ، فإنْ قَسَوْتَ عليه وأغلظْتَ له القول أو اخترتَ العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلاف بينكما من خلاف في مبدأ عام على عَدَاء شخصي . وإذا تحوَّلَتْ هذه المسألة إلى قضية شخصية فقد أججَّتَ أُوَار غضبه لأنه في حاجة لأنْ تَرْفُقَ به ، فلا تجمع عليه مرارة أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يكره ، بل حاول أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يحب لتطفئ شراسته لعداوتك العامة ، وتُقرِّب من الهُوّة بينك وبينه فيقبل منك ما تقول . يقول تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . وقد يطلُع علينا مَنْ يقول : لقد دفعتُ بالتي هي أحسن ، ومع ذلك لا يزال عدوي قائماً على عداوتي ، ولم أكسب محبته . نقول له : أنت ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن ، ولكن الواقع غير ذلك ، إنك تحاول أنْ تُجرِّب مع الله ، والتجربة مع الله شَكٌّ ، فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة ، وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق . وما أروعَ قول الشاعر : @ يَا مَنْ تُضَايِقُه الفِعَالُ مِنَ التيِ ومِنَ الذِي ادْفَع - فَدَيْتُك - بالتِي حتَّى تَرَى فَإذَا الذِي @@ لكن ، لماذا نقول التي هي أحسن ؟ لأن الشيطان ينزغ بينكم : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ … } [ الإسراء : 53 ] والنزْغ هو نَخْس الشيطان ووسوسته ، وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ … } [ الأعراف : 200 ] . فإن كنْت مُنتبِهاً له ، عارفاً بحيله فذكرتَ الله عند نَخْسه ونَزْغه انصرف عنك ، وذهب إلى غيرك لذلك يقول تعالى عن الشيطان : { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } [ الناس : 4 ] أي : الذي يخنس ويختفي إذا ذُكِرَ الله ، لكن إذا رأى منك ضعفاً وغفلة ومرَّتْ عليك حِيَلُة ، واستجبتَ لوساوسه ، فقد أصبحت فريسة سهلة بين أنيابه ومخالبه . وعادةً تأتي خواطر الشيطان وكأنها مِجَسٌّ للمؤمن واختبار لانتباهه وحَذَّره من هذا العدو ، فينزغه الشيطان مرَّة بعد أخرى لِيُجرّبه ويختبره . فإذا كان النزغ هكذا ، فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن لا تعطي للشيطان فُرْصة لأنْ يُؤجِّج العداوة الشخصية بينكما ، فيُزيّن لك شَتْمه أو لَعْنه ، وهكذا يتحول الخلاف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية . لذلك إذا رأيتَ شخصين يتنازعان لا صِلَة لك بهما ، ولكن ضايقك هذا النزاع ، فما عليك إلا أنْ تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً ، وأتحدّى أن يستمر النزاع بعدها ، إنها الماء البارد الذي يُطفئ نار الغضب ، ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس ، وما أشبهك في هذا الموقف برجل الإطفاء الذي يسارع إلى إخماد الحريق ، وخصوصاً إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الإصلاح ، وليس لك مأرَبٌ من هذا التدخّل . والحق سبحانه يقول : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ … } [ الإسراء : 53 ] . تلاحظ أن نَزْغ الشيطان لا يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي ، بل ينزغ بين الإخوة والأهل والأحبة ، ألم يَقُل يوسف : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ … } [ يوسف : 100 ] . لقد دخل الشيطان بين أولاد النبوة ، وزرع الخلاف حتى بين الأسباط وفيهم رائحة النبوة ، ولذلك لم يتصاعد فيهم الشر ، وهذا دليل على خَيْريتهم ، وأنت تستطيع أنْ تُمِّيز بين الخيِّر والشرير ، فتجد الخيِّر يهدد بلسانه بأعنف الأشياء ، ثم يتضاءل إلى أهون الأشياء ، على عكس الشرير تراه يُهدد بأهونِ الأشياء ، ثم يتصاعد إلى أعنف ما يكون . انظر إلى قوْل إخوة يوسف : { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً … } [ يوسف : 9 ] فقال الآخر وكان أميل إلى الرفق به : { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ … } [ يوسف : 10 ] وقد اقترح هذا الاقتراح وفي نيته النجاة لأخيه ، بدليل قوله تعالى : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ … } [ يوسف : 10 ] وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم . ثم يقول تعالى : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ الإسراء : 53 ] . أي : أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم - عليه السلام - فهي عداوة مُسْبقة ، قال عنها الحق سبحانه : { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [ طه : 117 ] . لذلك يجب على الأب كما يُعلِّم ابنه علوم الحياة ووسائلها أنْ يُعلّمه قصة العداوة الأولى بين الشيطان وآدم - عليه السلام - ويُعلمه أن خواطر الخير من الله وخواطر الشر من الشيطان ، فليكُنْ على حَذَر من خواطره ووساوسه ، وبذلك يُربِّي في ابنه مناعة إيمانية ، فيحذر كيد الشيطان ونَزْغه ، ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان ، وهذه التربية من الآباء تحتاج إلى إلحاح بها على الأبناء حتى ترسخ في أذهانهم . فقوله تعالى : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ الإسراء : 53 ] أي : كان ولا يزال . وإلى يوم القيامة بدليل قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] . أي : لأتعهّدنّهم بالإضلال والغواية إلى يوم القيامة . ثم يقول الحق سبحانه : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ … } .