Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ختم الحق سبحانه سورة الإسراء بالحمد ، وبدأ سورة الكهف بالحمد ، والحمد لله دائماً هو الشعار الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير الكلمات : " سبحان الله والحمد لله " سبحان الله بُدئتْ بها سورة الإسراء ، والحمد لله بُدئت بها سورة الكهف . سبحان الله تنزيه لذاته سبحانه أن يكون له شريك ، لا في الذات ، ولا في الأفعال ، ولا في الصفات ، والحمد لله كذلك تكبرة للذات ، وبعد ذلك جاء العطاء من الذات فقُلْنا : الحمد لله ، فسبحان الله تنزيه ، والحمد لله شكر على العطاء . والحمد يشترك معه في المعنى العام : ثناء وشُكْر ومدح ، إلا أن هذه الألفاظ وإنْ تقاربت في المعنى العام فلكُلٍّ منها معناه الخاص ، وكل هذه الألفاظ فيها ثناء ، إلا أن الشكر يكون من مُنعَم عليه بنعمة خاصة به ، كأن يُسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك ، فتشكره عليه . أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك ، فرُقْعة الحمد أوسع من رُقْعة الشكر ، أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً ، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك . فقَوْلُ الحق : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } بالألف واللام الدالة على الحصر ، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله ، الحمد المستوعب لكل شيء ، حتى إنَّ حمدك لأيِّ إنسان قدَّم لك جميلاً فهو - إذا سَلْسَلْتَهُ - حَمْدٌ لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك ، فالجميل جاء من حركته ، وحركته موهوبة له من خالقه ، والنعمة التي أمدّك بها موهوبة من خالقه تعالى ، وهكذا إذا سلسلتَ الحمد لأيِّ إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعِم الأول سبحانه وتعالى . وكلمة { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } هذه هي الصيغة التي علمنا الله أنْ نحمدَهُ بها ، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يُحدِّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخَلْق في الحمد حَسْب قدراتهم وتمكّنهم من الأداء وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم ، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح من العيي والأُمّي . فتحمّل الله عنا جميعاً هذه الصيغة ، وجعلها متساوية للجميع ، الكل يقول { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } البليغ يقولها ، والعيي يقولها ، والأُمّي يقولها . لذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحمد الله ويُثنِي عليه : " سبحانك لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك " . فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت ، ولا يُحصيه غيرك ، ولا نملك إلا أنْ نقولَ ما علَّمتنا من حمدك : الحمد لله . إذن : فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد ، فنقول : الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله ، والحمْد الأول أيضاً نعمة ، وبذلك نقول : الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله بالحمد لله . وهكذا ، لو تتبعتَ الحمدَ لوجدته سلسلةً لا تنتهي ، حَمْد على حَمْد على حَمْد على حَمْد ، فيظل الله محموداً دائماً ، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية . والحمد لله استهل بها الحق سبحانه خَمْس سور من القرآن : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] . { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] . { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ … } [ الكهف : 1 ] . { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ … } [ سبأ : 1 ] . { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ … } [ فاطر : 1 ] . ولكن ، لكُلِّ حَمْد في كل سورة حيثية خاصة ، فالحمد في الأولى لأن الله ربُّ العالمين ، وربٌّ يعني الخالق والمتولي للتربية ، خلق من عدم ، وأمدَّ من عُدم ، وتولّى تربية عباده ، فهو رَبٌّ لكل العالمين لذلك يجب أنْ نحمدَ الله على أنه هو الربُّ الذي خلق العالمين ، وأمدَّهم بفضله . وفي الثانية : نحمده سبحانه الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وهذه آيات من آيات الله ونِعَم من نِعَمه ، فالسماوات والأرض فيها قيام البشر كله بما يمدُّ حياتهم بالقوت ، ويستبقي نوعهم بالتكاثر . والظلمات والنور مِنَ نعم الله ، وهما متكاملان لا متضادان ، فَلِلْظُّلمة مهمة ، كما أن للنور مهمة ، الظلمة للسكون والراحة ، والنور للسعي والحركة ، ولا يمكن لسَاعٍ أنْ يسعى ويجدّ في عمل ، إلا إذا ارتاح وسكن وجدَّد نشاطه ، فتقابُل الظلمة والنور للتكامل ، فالحياة لا تستقيم في ظلام دائم ، كما أنها لا تستقيم في نور دائم . وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه بـ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } - والتي نحن بصددها - أراد الحق سبحانه أنْ يُوضّح أنه لم يُربِّ الخلْق تربية مادية فقط ، بل هناك تربية أعلى من المادة تربية روحية قيمية ، فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخَلْق الإنسان ، فهو لم يُخلق لمادته فحسْب ، ولكن لرسالة أسمى ، خلق ليعرف القيم والرب والدين ، وأنْ يعملَ لحياة أخرى غير هذه الحياة المادية ، فقال تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ … } [ الكهف : 1 ] . فحيثية الحمد هنا إنزالُ الكتاب الذي يجمع كل القيم . وقلنا : إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل أنْ يخلق الخَلْق وضع له النماذج التي تُصلِح حركة الحياة ، كما قال تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] . فتعليم القرآن جاء قبل خَلْق الإنسان ، إذن : وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظِّم لحياتهم قبل أن يخلقَهم ، لعِلْمه سبحانه بطبيعة خَلْقه ، وبما يصلحهم ، كالمخترع للآلة الذي يعلم مهمتها ويُحدِّد قانون صيانتها ، فالكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المهمة الأساسية ، فيجب أنْ تُوطّن عليها نفسك ، وتعلَم أنه المنظِّم لحياتك ، وبه قانون صيانتك . وقوله : { عَلَىٰ عَبْدِهِ … } [ الكهف : 1 ] كما قلنا : في سورة الإسراء : إن العبودية كانت حيثية الرِّفْعة في الإسراء والمعراج ، فقال سبحانه : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] . فالعبودية رفعتْه إلى حضرته تعالى لأنه كان عبداً بحقّ ، وهذا يعني إنزال الكتاب عليه ، فكان عبداً بحق قبل أن يُسرَى به ، وحمل منهج الله أولاً فالتفتَ لربه لَفْتةً أراد أنْ يلفتَ بها سواه ، فأخلص هو أولاً في العبودية ، وتحمَّل ما تحمّل ، فكان من جزائه أن يرتفع إلى مقام الحضرة فَعُرِج به ، وهناك أعطاه الله الصلاة لينزلَ بها إلى الخَلْق ليرفع بها صوته إلى المقام الذي سعى إليه بالمعراج . إذن : فالنبي تناول ليناوِل ، وتناول لأنه أخلصَ العبودية ، فصعد إلى حضرة ربه ، وأخذ فريضة الصلاة وبلَّغها لقومه ، وكأنه يقول لهم : مَنْ أراد أن يلتقي بالله ، فليدخل في الصلاة . و { ٱلْكِتَابَ … } [ الكهف : 1 ] هو القرآن الكريم ، لكن سورة الكهف ترتيبها الثامنة عشرة بين سور المصحف من المائة والأربعة عشرة سورة ، أي : أن القرآن لم يكتمل بعد ، فلماذا قال تعالى { ٱلْكِتَابَ } وهو لم يكتمل بعد ؟ نقول : الكتاب يُطلَق ويُرَادُ به بعضه ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] فالآية الواحدة تُسمَّى قرآناً ، والسورة تُسمَّى قرآناً ، والكل نُسمِّيه قرآناً . أو : يكون المراد أَنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ ، ثم نزَّله بعد ذلك مُنَجَّماً حَسْب الوقائع ، فالمراد هنا الإنزال لا التنزيل . وقوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] أي : جعله مستقيماً ، لا عِوجَ فيه ، كما قال في آية أخرى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ … } [ الزمر : 28 ] والاعوجاج ، أن يأخذ الشيءُ امتداداً مُنْحنياً ملتوياً ، أما الاستقامة فهي الامتداد في نفس الاتجاه ، لا يميل يميناً أو شمالاً ، ومعلوم أن الخطَّ المستقيم يمثل أقرب مسافة بين نقطتين ، ولا تستقيم حياة الناس في الدنيا إلا إذا ساروا جميعاً على منهج مستقيم يعصمهم من التصادم في حركة الحياة . فالحق سبحانه وتعالى خلق الخَلْق متكاملين ، فكُلٌّ منهم لديه موهبة يحتاجها الآخرين ، فهذا طبيب ، وهذا مهندس ، وهذا نجار ، وهذا خياط ، ولا يستطيع أحد أن يقومَ بذاته أو يستغني عن مواهب غيره ، فلا بُدَّ أن يتواجه الناس في الحياة ، وأنْ يتكاملوا . هذا التواجه إنْ لم يُنظِّم وتوضع له قوانين مرور دقيقة لتصادمت حركات الناس ، كما يحدث على الطريق الملتوي كثير المنحنيات ، فالقادم من هنا لا يرى القادم من هناك ، فيحدث التصادم . إذن : لا بُدَّ من استقامة الطريق ليرى كلٌّ مِنّا الآخر ، فلا يصطدم به . والمنهج الإلهي هو الطريق المستقيم الذي يضمن الحركة في الحياة . وقد ذُكِر الاعوجاج أيضاً في قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 105 - 107 ] . أي : أرضاً مستوية خالية من أي شيء { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً } [ طه : 107 ] أي : مستقيمة { وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 107 ] . أي : مُسْتوية لا يُوجد بها مرتفعات ومنخفضات تعوق الرؤية أيضاً وتسبب التصادم ، وهذا ما يُسمِّيه رجال المرور العقبة . ثم يقول الحق سبحانه واصفاً القرآن الكريم : { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ … } .