Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 9-9)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد وردتْ قصة أهل الكهف نتيجة لسؤال كفار مكة الذين أرادوا أنْ يُحرجوا رسول الله ، ويُروى أنهم أرسلوا رجلين منهم هما : النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة ليسألوهم عن صدق رسول الله ، وما خبره عندهم ، وما ورد عنه في كتبهم . وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد ، يقولون : لقد أطلَّ زمان نبيٍّ نتبعه ، ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول الله ، فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا : إنْ أردتُمْ معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء ، فإنْ أجابكم فهو صادق ، اسألوه : ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة ؟ وما قصة الرجل الطوّاف الذي طاف الأرض شرقاً وغرباً ؟ وما الروح ؟ وفعلاً ذهب الرجلان إلى رسول الله ، وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " وجاء غد وبعد غد ومرَّت خمسة عشر يوماً دون أنْ يُوحَى لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة ، فشقّ ذلك على رسول الله وكَبُر في نفسه أنْ يعطِي وَعْداً ولا يُنجزه . وقالوا : إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يقُلْ : إنْ شاء الله ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] . وهذه الآية في حَدِّ ذاتها دليل على صدق رسول الله ، وعلى أدبه ، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل ، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجاً لغيره ، وحتى لا يستنكف أحد إذا استُدرك عليه شيء ، فها هو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويُعدِّل له . فكأن قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربَّى من توجيه المربِّي ، ما دام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة ، فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإنْ كان من الخَلْق ، فما بالك إنْ كان الاستدراك من الخالق سبحانه ، والتعديل والتربية من ناحيته ؟ وإليك مثال لأدب الاستدراك ومشروعية استئناف الحكم ، لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] . فكان حكم داود عليه السلام في هذه المسألة أنْ يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلتْ زرعه ، فلما بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلاً : بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يُصلحه حتى يعودَ إلى ما كان عليه ، ثم تعود الغنم إلى صاحبها ، والزرع إلى صاحبه . لذلك قال تعالى بعدها : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ … } [ الأنبياء : 79 ] ولم يتهم داود بالخطأ ، بل قال : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً … } [ الأنبياء : 79 ] . ونلحظ هنا أن الاستدراك لم يَأْتِ من الأب للابن ، فيكون أمراً طبيعياً ، بل جاء من الابن للأب ليؤكد على أنه لا غضاضة أنْ يستدرك الصغير على الكبير ، أو الابن على الأب ، فالهدف هو الوصول إلى الحق والصواب ، ونبيّ الله سليمان في هذه المسألة لم يغُضّ الطرف عن هذا القصور في حكومة أبيه ، بل جهر بالحق ونطق به لأن الحق أعزّ من أيِّ صلة حتى لو كانت صلة الأبوة . ومن هذه القضية نعلم أن استدراك الخَلْق على الخَلْق أمر طبيعي ومقبول لا يستنكف منه أحد ، ومن هنا جاءت فكرة الاستئناف في المحاكم ، فلعل القاضي في محكمة الاستئناف يستدرك على زميله في المحكمة الابتدائية ، أو يقف على شيء لم يقف عليه ، أو يرى جانباً من القضية لم يَرَهُ . ولنا هنا وَقْفة مع أمانته صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله ، وأنه لم يكتم من الوحي شيئاً حتى ما جاء في عتابه والاستدراك عليه ، فكأنه أمينٌ حتى على نفسه ، فالرسول هو الذي بلغنا : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } [ الكهف : 23 ] وهو الذي بلَّغنا : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } [ التحريم : 1 ] . وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدر : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ … } [ التوبة : 43 ] وغيرها كثير من آيات القرآن لذلك مدحه ربه تعالى بقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ] . حتى في مجال التهديد والوعيد لم يكتم رسول الله من الوحي حرفاً واحداً ، انظر إلى قوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] . إنها الأمانة المطلقة والصدق الذي لا يُخفِي شيئاً . ألم يكُنْ جديراً بالقوم أنْ يفقهوا هذه الناحية من رسول الله ، ويتفكّروا في صِدْقه صلى الله عليه وسلم حين يُخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها ، وكان من المنتظر أنْ يُخفيها عنهم ؟ أليس في ذلك دليلاً قاطعاً على صدقه فيما يقول ؟ والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن نقول : إن شاء الله إذا أقدمنا على عمل في المستقبل إنما يُكرّم عبده ويحميه حتى لا يُوصَف بالكذب إذا لم يُحقِّق ما وعد به ، وليس في قولنا : إنْ شاء الله حَجْر على أحد ، أو تقييد لطموحات البشر كما يدّعي البعض أن قول إنْ شاء الله يلغي التخطيط للمستقبل . نقول : خَطِّط كما تريد ، ودَبِّر من أمرك ما شئت ، واصنع من المقدمات ما تراه مناسباً لإنجاح سعيك ، لكن ما عليك إنْ قرنتَ هذا كله بمشيئة الله ، وهي في حَدِّ ذاتها عَوْنٌ لك على ما تريد ، فإنْ أخفقتَ فقد جعلتَ لنفسك حماية في مشيئة الله ، فأنت غير كاذب ، والحق تبارك وتعالى لم يشأ بَعْدُ أنْ تنجزَ ما تسعى إليه . والحقيقة أن الحدث في المستقبل لا يملكه أحد ، ولا يضمنه أحد إلا الله تبارك وتعالى لذلك عليك أن تُعلِّق الفعل على مشيئة الله ، فإنْ قُلْتَ مثلاً : سأقابل فلاناً غداً لأكلمه في كذا ، فهل تملك أنت من عناصر هذا الحدث شيئاً ؟ أضمنتَ أن تعيش إلى غد ؟ أضمنتَ حياة فلان هذا إلى الغد ؟ أضمنتَ أن موضوع المقابلة باق لا يتغير فيه شيء ، ولا يطرأ عليه طارئ ؟ إذن : فكيف تقطع بالقول أنك ستفعل غداً كذا ؟ قل : إن شاء الله ، واخرج من دائرة الحرج هذه . نعود إلى الآية التي نحن بصددها فالحق سبحانه يقول : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] . { أَمْ } حرف من حروف العطف ، ويفيد الإضراب عَمَّا قبله وتوجيه الاهتمام إلى ما بعده ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ … } [ الرعد : 16 ] . فالمراد : إنْ سألك كفار مكة عن مسألة أصحاب الكهف على أنها معضلة يريدون إحراجك بها ، فدعْكَ من كلامهم ، ودَعْك من سوء نيتهم ، ولا تحسب أن أهل الكهف هي العجيبة الوحيدة لدينا ، فالعجائب عندنا كثيرة ، وهذه واحدة منها . و { ٱلْكَهْفِ } : الفجوة في الجبل و { وَٱلرَّقِيمِ } الشيء المرقوم أي : المكتوب عليه كحجر أو نحوه ، ولعله حجر كان على باب الكهف رُقِم عليه أسماء هؤلاء الفتية ، ومن ذلك قوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ] أي : مكتوب . وقوله : { كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] أي : ليست هذه هي العجيبة الوحيدة ، فكل آياتنا عجيبة تستحق التأمل . ثم تأخذ الآيات في تفصيل هذه العجيبة ، فيقول تعالى : { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً … } .