Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 17-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحجاب : هو الساتر الذي يحجب الإنسان عن غيره ويحجب غيره عنه ، فما فائدة أنْ تتخذ بينها وبين أهلها سِتْراً بعد أن ابتعدتْ عنهم ؟ نقول : انتبذتْ من أهلها مكاناً بعيداً ، هذا في المكان ، إنما لا يمنع أنْ يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى لا يطّلع عليها أحد ، فهناك إذن مكان ومكين . والحجاب قد يكون حجاباً مُفْرداً فهو ساتر فقط ، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره ، فهو حجاب مُركّب ، كما يصنع أهل الترف الآن الستائر من طبقتين ، إحداهما تستر الأخرى ، فيكون الحجاب نفسه مَسْتوراً ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . وقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا … } [ مريم : 17 ] . كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات مُتعدّدة ، أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية ، فإذا نفخَ الله الروح في المادة دبَّتْ فيها الحياة والحِسّ والحركة ، ودارت كل أجهزة الجسم ، وهذا المعنى في قوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] . لكن ، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خَلْق الله للخَلْق ؟ قالوا : إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها لأن الإنسان قد يمرُّ بها ويموت بعد ساعة ، أو بعد يوم ، أو بعد سنة ، أو عدة سنوات . إذن : هي حياة قصيرة حقيرة هيِّنة ، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام ، أما الإنسان الذي كرّمه الله وخلق الكون من أجله فلا بُدَّ أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ الله له ، هذه الحياة الأخرى الدائمة الباقية يقول عنها القرآن : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . { لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي : الحياة الحقيقية ، أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر عتياً ، فنهايتك إلى الموت ، فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي لا يُهدِّدها موت فهي في الآخرة . فإذا كان الخالق - تبارك وتعالى - جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مُدّة بقائك فيها ، ألاَ يجعل لك في الآخرة رُوحاً تناسبها ، تناسب بقاءها وسَرْمديتها ، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] . فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء ؟ نعم ، هم أحياء الحياة الدنيا ، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية ، أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاءَ لها . وكما سمَّى الله السِّرَّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة " روحاً " ، كذلك سمَّى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة " روحاً " ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا … } [ الشورى : 52 ] أي : القرآن الكريم . كما سَمَّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحاً : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] وهو جبريل عليه السلام . إذن : فقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا … } [ مريم : 17 ] أي : جبريل عليه السلام . { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] معنى تمثَّل : أي : ليستْ هذه حقيقته ، إنه تمثَّل بها ، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى ، وذات أجنحة مَثْنى وثُلاَث ورُبَاع ، فلماذا - إذن - جاء الملَكُ مريمَ في صورة بشرية ؟ لأنهما سيلتقيان ، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية ، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته ، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر ، ولا بُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر ، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة ، كما رُقي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج ، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب . لذلك ، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . وقال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] إذن : لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب . جاء جبريل - عليه السلام - إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به ، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً … } [ مريم : 17 ] أي : من جنسها { سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] . أي : سويّ الخِلْقة والتكوين ، وسيماً ، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر ، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه ، كما نرى في بعض الناس . وهذا كله لإيناس مريم وطمأنينتها ، وأيضاً ليثبت أنها العذراء العفيفة لأنها لما رأت هذا الفتى الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجاباً ولا تلطفتْ إليه في الحديث ، ولا نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها مَيْل إليه ، بل قالت كما حكى القرآن : { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ … } .